روسيا في سوريا: الرقص مع الجميع

2019.02.09 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يخطئ من يعتقد أن وراء كل هذا الحضور الروسي الطاغي في الشرق الأوسط دهاء وقدرات مميزة للرئيس فلاديمير بوتين أو قدرات سياسية براغماتية كبيرة لموسكو. جلّ المسألة يتعلق بانكفاء أميركي تأسس في حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، واستمر لاحقا مع الرئيس الحالي دونالد ترمب، وذلك بالرغم من كل الانتقادات التي وجهها فريقه، وما يزال، لسياسة أوباما الخارجية، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور في سوريا والعراق وغيرها من المناطق.

لقد بدأ الانكفاء الأميركي منذ حملة الانتخابات الرئاسية الأولى للرئيس أوباما، والتي قامت على عهود قطعها للجمهور والناخبين بسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، وإخراج الاقتصاد من أسوأ أزمة مر بها منذ أزمة الانهيار الاقتصادي 1929. وخلال ثمانية أعوام قضاها أوباما في البيت الأبيض، شهدت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط انحسارا كبيرا، وخاصة في العراق، حيث فضّل أوباما عدم إزعاج إيران مدفوعا بطموح التوصل إلى اتفاق "تاريخي" يضع حدا لبرنامجها النووي. وهو ذاته الطموح الذي جعله ينكفئ ويتردد في دعم الانتفاضة الشعبية ضد النظام السوري، أو انتهاج سياسة تزعج إيران، و تلبي تطلعات السوريين في إسقاط هذا النظام.

لقد استخدمت إدارة أوباما الحرب في سوريا كورقة تفاوض مع الإيرانيين حول برنامجهم النووي، ولم تكترث كثيرا للنتائج الخطيرة المترتبة عن استمرار الصراع. وتسبب نهج "القيادة عن بعد"، الذي اتبعه أوباما في سوريا، وغياب إستراتيجية واضحة إزاء النظام والثورة الشعبية ضده،  تسبب كل ذلك بتكريس حالة من الشلل في السياسة الأميركية إزاء سوريا، وملفات عديدة في المنطقة مثل اليمن، كان أبرز تجلياتها حضور إيراني وروسي متزايد، وتوترات في علاقة واشنطن بأبرز حلفائها في المنطقة، وفي مقدمتهم تركيا والسعودية، اللتان لم تترددا في طرق أبواب موسكو كلما سنحت لهما الفرصة للتعبير عن غضبهما إزاء واشنطن.

حتى إسرائيل ذاتها، وهي أقرب حلفاء واشنطن، وجدت أن لا مفر من التنسيق الدائم مع روسيا، وقد شهد العامان المنصرمان عشرات الزيارات والاتصالات الهاتفية لكل من الرئيس التركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

حتى حلفاء الولايات المتحدة التقليديون في منطقة الخليج العربي، شعروا بانحسار الدور الأميركي وزيادة الحضور الروسي وفاعليته

حتى حلفاء الولايات المتحدة التقليديون في منطقة الخليج العربي، شعروا بانحسار الدور الأميركي وزيادة الحضور الروسي وفاعليته، حيث استطاعت موسكو بناء علاقات اقتصادية قوية مع السعودية، وعملت على زيادة علاقاتها التجارية مع قطر وباعت أسلحة بمليارات الدولارات للإمارات العربية المتحدة.

لقد برهنت روسيا خلال السنوات القليلة المنصرمة، وخاصة بعد 2015، حين تدخلت لإنقاذ النظام السوري الذي كاد ينهار في أية لحظة، أنها حليف يمكن الوثوق به والركون إليه، بعكس الولايات المتحدة التي بدت أنها مستعدة للتخلي عن حلفائها وأصدقائها الشرق أوسطيين، وخاصة بعد دعمها للثورات الشعبية التي حصلت في كل من مصر وتونس وطلبها من رئيسي البلدين التنحي عن السلطة.

وخلال الفترة التي تلت مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول بتركيا، سعت موسكو للنأي بنفسها عن الولايات المتحدة، وغالبية الدول الغربية التي أدانت الجريمة وحملت السلطات السعودية مسؤولية الجريمة، لا بل هي ذهبت بعيدا، وبدت كما لو أنها تمدّ حبل نجاة لها، حين رحب فلاديمير بوتين خلال قمة العشرين الأخيرة في بونس آيرس بالأرجنتين، بولي العهد السعودي محمد بن سلمان وصافحه وتضاحكا مطولا، في وقت كان العالم يشجب الجريمة، ويتهم السلطات السعودية بتورطها فيها. لقد بدت موسكو أنها جاهزة أبدا لتلقف كل الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة وجاهزيتها دائما للاستفادة من كل الثغرات والخلافات الثنائية بينهم وبين واشنطن.

ولعل أكثر تجليات الحضور الروسي وبراعته في إدارة التناقضات لصالح موسكو، يتجلى في سوريا، حيث تحافظ روسيا على "علاقات وظيفية مع جميع الأطراف ذات الصلة داخل البلدان والمنطقة، بما في ذلك مع الأفرقاء الذين قد يعتبرون بعضهم بعضاً ألدّ الأعداء" حسب  "ديميتري ترينين" مدير مركز كارنيغي في موسكو، الذي يعتقد أنه يجب نسيان  أمر "الأيديولوجيا والقيَم الأخلاقية العالية التي يُنادى بها في أوروبا والولايات المتحدة"، فالشرق  الأوسط حسب رأيه "منطقةٌ صُنِعت للسياسة الواقعية الكلاسيكية".

ولعل أبرز تجليات "الواقعية السياسية" التي تنتهجها روسيا، تتمثل في طريقة إدارتها للصراع في سوريا، الذي خرج منذ فترة طويلة عن كونه صراعا داخليا بين النظام وخصومه المعارضين، وأصبح صراعا إقليميا ودوليا واضحا، وإن بالوكالة.  

تدعم موسكو سياسيا وعسكريا النظام السوري، وبنفس الوقت فتحت خطوط اتصال وتواصل مع خصومه في المعارضة

ففي سوريا، تدعم موسكو سياسيا وعسكريا النظام السوري، وبنفس الوقت فتحت خطوط اتصال وتواصل مع خصومه في المعارضة، وعملت على استضافتهم في موسكو أكثر من مرة، كذلك تحتفظ بقنوات اتصال مع قوات كردية سورية مدعومة من واشنطن، وتسعى إلى التوصل لتفاهمات بينها وبين النظام السوري من جهة، وبينها وبين أنقرة من جهة أخرى.

كما تحافظ موسكو على علاقات قوية مع إيران، وتقف معها في نفس الجبهة الداعمة للنظام السوري، بنفس الوقت الذي تنسق فيه مع إسرائيل عسكريا، وتتغاضى عن الضربات الجوية التي توجهها الطائرات الحربية الإسرائيلية للمواقع والجنود الإيرانيين في سوريا. 

وأيضا، استطاعت روسيا أن تكسب ثقة الأتراك والإيرانيين، وتجمعهم في مسار سياسي حول المسألة السورية هو مسار "أستانة"، رغم تناقض المصالح والأهداف بين كل من روسيا وإيران وتركيا في سوريا.

كذلك، ورغم التنسيق العالي المستوى بين موسكو وطهران وأنقرة، فإن روسيا تسعى للجم التمدد الإيراني في سوريا، والبقاء متيقظة إزاء الطموحات التركية. وفيما يخص لجم التمدد الإيراني في سوريا، حصل أكثر من مرة أن تدخلت موسكو عسكريا ضد وحدات إيرانية، مثل تلك المواجهات المسلحة في ريف حماة الغربي والتي تسببت بسقوط عشرات القتلى والجرحى بين الفرقة الرابعة حليف طهران من جهة والفيلق الخامس المدعوم روسياً من جهة أخرى. كذلك أشارت تقارير إلى أن روسيا مارست ضغوطات كبيرة على الفروع الأمنية في محافظة درعا جنوب سوريا بسبب تسهيلها عمل "حزب الله" بالمنطقة.

أعلنت موسكو على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف رفض بلاده المقترح الأميركي بإقامة منطقة آمنة شمال سوريا

أما فيما يخص التيقظ الروسي إزاء طموحات تركيا في سوريا، فقد أعلنت موسكو على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف رفض بلاده المقترح الأميركي بإقامة منطقة آمنة شمال سوريا، وشدد على أن الجيش السوري هو مَن يجب أن يسيطر على شمال البلاد، قائلا إن "الحل الوحيد والأمثل هو نقل هذه المناطق لسيطرة الحكومة السورية وقوات الأمن السورية والهياكل الإدارية».

ومن الواضح أن موسكو تخشى من دور تركي كبير مدعوم من واشنطن في هذه المنطقة، خاصة وأن التنافس الأميركي -الروسي على كسب تركيا في سوريا ما يزال قائما، في وقت تعي أنقرة تماما هذا التنافس وتسعى لتحقيق مكاسب من الطرفين تساعدها في ترسيخ دور إقليمي أساسي في المعادلة السورية بما يتوافق مع مصالحها القومية ويبدد هواجسها الأمنية. 

وخلاصة القول، إن روسيا اليوم، وفيما يخص سياستها الشرق أوسطية، تسعى للرقص مع جميع الأطراف المتخاصمة، دون أن تعطي إشارات بالصداقة الكاملة مع طرف على حساب آخر، وأيضا دون إعطاء إشارات بالعداوة الكاملة مع أحد. إن هذه السياسة تعكس فنا متميزا في إدارة الصراع، ومهارة فائقة في الحفاظ على حضور كبير في كل الملفات، تماما مثل التاجر الماهر الذي يوزع أصوله وأمواله هنا وهناك وليس في سلة واحدة. لكن قد يكون المأخذ الوحيد على هذه السياسة، أنها لن تصنع حلفاء دائمين لموسكو، لأن جميعهم يدركون أنهم لن يحصلوا على كل شيء يريدونه منها، ولأنهم يدركون أن الاقتراب منها أفضل بكثير من تجنبها ومعاداتها.