دكاكين عنتاب

2019.03.24 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان مطعماً ناجحاً في حي يكثر فيه السوريون، واسعاً بديكور جميل. افتتحه رجل كان، في سوريا، صاحب سلسلة شهيرة من محلات الوجبات السريعة. ولأنه يملك ما يكفي من المال اشترى مطعمه الخاص في هذه المدينة من جنوب تركيا. كان عماله لا يكادون يهدؤون، بين العدد الوافر من الطاولات التي قلما تخلو وبين الطلبات الخارجية للزبائن المارين وأولئك المتصلين بالهاتف. ولذلك فوجئت بمنظره مغلقاً وقد بدأ الغبار يتراكم على واجهته التي توسطتها لافتة صفراء تعرضه للبيع (Satilik).

في العام السادس لإقامتي في عنتاب، التي تحوي 350 ألف سوري وفق أحدث إحصاء لدائرة الهجرة التركية؛ تراودني فكرة الإطلالة على الحالة السورية من بوابة دكاكين عنتاب.

من المعروف أن هذا التركيب، وباستعمال الأقواس الدالة على المجاز: «دكاكين عنتاب»، بات إشارة سلبية للنيل من عدد كبير من المنظمات السورية التي فُتحت في هذه المدينة أو اتخذتها مقراً رئيسياً. في الحقيقة ورث السوريون بين ما ورثوا من القاموس السياسي اللبناني وربما الفلسطيني، لفظة الدكاكين للتعبير عن المؤسسات الصغيرة ذات العلاقات المادية الخارجية غير المفهومة والشعارات الوطنية العريضة،مع إنتاج غير ملحوظ ورواتب مرتفعة للموظفين. بالتأكيد ظلم هذا الوصف التبخيسي الإجمالي بعض المنظمات، لكن اللاجئين السوريين جرحى ومصابون في أكثر مقومات حياتهم، ولا يملكون الصبر الكافي للتمييز في التفاصيل.

على كل حال فإن موضوع المنظمات كبير وشائك وله خبراؤه و«دكاكينه الاستشارية». أما موضوع الدكاكين الفعلية فتراوح الاهتمام به بين دوائر الترخيص التركية، وأصحاب المتاجر من أهل البلد الذين شعروا بالمنافسة، ووسائل الإعلام السورية المعارضة الباحثة عن موضوع، وأخيراً المستهلك الذي يبحث عن البضائع التي اعتادها، لاسيما مع شعوره أن إقامته هنا مؤقتة مهما طالت، مما لا يحمله على تغيير عاداته في المشتريات اليومية ونمط الطعام، وحتى في الدواء.

تختلف دكاكين السوريين الواقعية عن «دكاكينهم» السياسية والإغاثية والتعليمية والصحية

تختلف دكاكين السوريين الواقعية عن «دكاكينهم» السياسية والإغاثية والتعليمية والصحية في أن المتجر أو المطعم هو الرهان شبه الأخير لصاحبه، يضع فيه ما بقي وتمكن من استنقاذه من «تحويشة العمر». يفتح الدكان، ظهره إلى الجدار ووجهه إلى «البَلَم» مبحراً، مع أسرته، في رحلة خطيرة نحو بلاد غريبة. إنها ما يشبه رهان الحياة أو الموت، ما دام معظم السوريين يفضّلون الإقامة المؤقتة في تركيا، إن أتيحت الظروف لحياة كريمة، على الهجرة الدائمة إلى أوروبا حيث سيُقاد الكبار إلى مدارس اللغة وسيتيه الأولاد عن هويتهم ولن يتمكن الأهل حتى من ضربهم!!

لابد أن ينجح المشروع الفردي الشخصي إذاً، تحت أي ظرف، ففشله يعني الاقتلاع الذي لم يحدث نفسياً بشكل تام وحاسم رغم القدوم إلى تركيا. أما «المنظماتيون» فهم أقل تأثراً بإخفاق مؤسستهم التي ربما انتقلوا إلى غيرها بيسر، فضلاً عن أن قلة منهم يمكن أن يهددها الجوع أو التلكؤ في تسديد الإيجار والفواتير، وأخيراً فإن حساسية هؤلاء تجاه المنفى المتغرب أقل من توجس السوري العادي، المحافظ تعريفاً. بل ربما وجد كثير من طواقم المنظمات الفارطة في الهجرة فرصة للارتقاء التعليمي والمهني والاجتماعي والثقافي وفي مستوى من العلاقات الأقرب إلى المركز، الغربي تعريفاً كذلك.

يضع السوري العادي ما يملكه من إمكانات في الدكان إذاً؛ قسطاً كبيراً مما يملكه من مال؛ ذهب النساء؛ ما بيده من «مصلحة»؛ من يعرفه ويثق به من «صنايعية». ورغم ذلك... يفشل!

في عنتاب يصعب أن تعتاد التردد إلى مشروع سوري بسيط؛ مطعم أو مقهى أو صرّاف أو سمّان. يجب أن تدمن على مشهد الافتتاح البهيج والتمني أن يكون الدكان «آية للرزق»، ثم على صموده بقدر ما تسمح مدخرات صاحبه، وأخيراً على منظره مغلقاً وعليه إعلان العرض للإيجار أو البيع من جديد.

لن تعرف ما الذي حصل بالضبط فهو متغير ومركب كل مرة... يفشل الناجحون سابقاً في التكيف مع بيئة عمل وتسوق جديدة؛ يرتجلون مشاريع لا علاقة لهم بها أصلاً؛ يتوهمون في أنفسهم خبرات لا يملكونها؛ يعتمدون على مدّعين سرعان ما ينكشف ضعف صلتهم بما يزعمونه من عراقة في «المعلمية»؛ يقترون في الرواتب فيهاجر من ضاق ذرعاً من العمال والأجراء؛ يختلس منهم المحاسب؛ يسرقهم تراجع الليرة التركية أمام الدولار رغم أنهم أول من يرفع السعر احترازاً؛ يختلف الشركاء على «البروظة» والمقترحات العشوائية المزاجية للإدارة ومدى الاهتمام بالعمل وتوظيف الأقارب والمحاسيب...

اختر ما شئت من الأسباب السابقة أو ادمج بينها وأضف إليها وستحصل على النتيجة المتكررة؛ الفشل!

لسنوات عديدة ظلت دائرة الهجرة التركية تكرر الرقم نفسه عن السوريين في عنتاب، لكنهم ليسوا الناس أنفسهم على الإطلاق. فقد حصدت أعوام ذروة ركوب البحر غرباً كثيراً من المقيمين السابقين وعوّضهم سوء الأوضاع في سوريا بساكنين جدد تسربوا بطرق مختلفة.

في رأيي يجدر بالمرء أن يفكر في هذه الدكاكين، وفي أصحابها المتعاقبين الذين صاروا بعيدين الآن، بينما يتأمل في أحوال «الدكاكين» السورية العامة، الكبيرة والصغيرة، بالتزامن ما جرت العادة على الدعوة إليه من «مراجعات» في كل ذكرى للثورة، ومع تصاعد النقد الذي يلقي باللوم على السوريين لأنهم لم يكونوا جسداً واحداً في تأييد ثورتهم والعمل لها بشكل تنكمش معه الأنا ويسود الإخلاص وتتقدم الخبرة!

للأسف إن ما ينقص هذه المراجعات هو أن تكون أعمق بكثير. ينقصها الاعتراف بعطب سوري متجذر ومتفش ومعنّد ومتلاعب ومعدٍ. ليس جوهرانياً كما يقول العرقيون، بل تاريخي وقابل للتغيير حكماً. لكن القول إنه تبدد لمجرد أن كثيراً من السوريين نادوا بالحرية والكرامة والعدل هو أمل تولده الرغبة أكثر مما تؤيده الوقائع.

لقد ألقت الثورة «قولاً ثقيلاً» على مسامع الجميع. ولم يعد بمقدور أحد، لا النظام وحلفاؤه ولا مَن تعبوا من حمل هذا القول، أن يمسحوه. لكن سنوات كثيرة جداً ستمر قبل أن يصبح السوريون جديرين بأن يعيشوا فعلاً في ما طمحوا إليه من مجتمع جديد في بلادهم. لو كانت الحقيقة غير ذلك لما احتاج الأمر إلى ثورة بكل هذا الثمن الباهظ والزمن الطويل، بل إلى أن يتحرك السوريون -المطلوبون نظرياً- لأسابيع قليلة فقط، فينفضوا النظام العارض عن أكتافهم ويعاودوا حياتهم «السوية» كالمعتاد.

كلمات مفتاحية