دفاعاً عن حق عدم العودة

2018.12.02 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لمن يعرف التاريخ الحديث؛ أية عملية تهجير ممنهجة كالتي عرفها السوريون؟ ففي السنوات السبع الماضية، غادر أكثر من ستة مليون سوري بلدهم، طلباً للأمان، ولئن أسهمت العديد من الفصائل الراديكالية في عملية التهجير، فإن المسؤول الأول، واقعياً وسياسياً وقانونياً، هو السلطة السياسية الحاكمة، وما يتبعها من أجهزة تنفيذية، خصوصاً قطاعي الجيش والأمن.

إن التأكيد على عمليةِ تهجيرٍ ممنهجة قام بها "النظام السوري" مسألة مهمة جداً في ملف اللاجئين، حيث تثبت الوقائع، ابتداءً من قصف مناطق مدنية آمنة، وصولاً إلى عقد مصالحات، كان من بين نتائجها خروج السكان المدنيين خارج مناطقهم، إلى مناطق أخرى في سوريا، أو إلى خارجها، وخصوصاً إلى لبنان، وتركيا، تثبت أن عمليات التهجير كانت عن سابق إصرار، وليست مجرد نتيجة للصراع، ومن أجل تحويل المجتمع السوري إلى ما أسماه بشار الأسد "المجتمع المتجانس"، والمقصود منه بالطبع، المجتمع القابل للخضوع أو الإخضاع، أي المجتمع الذي يسمح للنظام بالاستمرار كما هو، من دون إحداث تغييرات جذرية في بنيته.

إن عمليات التهجير كانت عن سابق إصرار، وليست مجرد نتيجة للصراع، ومن أجل تحويل المجتمع السوري إلى ما أسماه بشار الأسد "المجتمع المتجانس"

وفي الوقت الذي كانت تجري فيه عمليات التهجير، بقي التصعيد الدولي ضد النظام السوري تصعيداً لفظياً، خصوصاً الموقف الأمريكي المتردد في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، والذي أوجد معه موقفاً دولياً متردداً، صبّ في مصلحة النظام ومخططاته، من دون أدنى مراعاة للمواثيق الدولية المتعلقة بالنزاعات، بما فيها اتفاقية "جنيف الرابعة"، والتي تؤكد على حق المدنيين في الحماية خلال النزاعات والحروب، وهو ما جعل المدنيين السوريين يدفعون الثمن الأكبر.

وخلال السنوات السابقة، وحتى خلال جولات التفاوض العديدة في جنيف بين ممثلي النظام وممثلي المعارضة، فإن ثمة ملفات بقيت خارج التفاوض، ومن بينها ملفا المعتقلين واللاجئين، وهما ملفان من شأن معالجتهما أن تكشف عن الدور المنهجي للنظام في إلحاق أبشع أشكال الأذى بمواطنيه، ليس فقط على المستوى الفردي، وإنما أيضاً، وبشكل واسع، على المستوى الجماعي، حيث إن تهجير مناطق بأكملها هو عقوبة جماعية.

وفي الحالة السورية، فإن معالجة الآثار الكارثية للصراع، فيما لو وضع الصراع العسكري أوزاره، تعني عودة اللاجئين، وإعادة إعمار ما تهدّم من البنى التحتية، في جميع القطاعات، لكن سلوك النظام تجاه ملف اللاجئين يبدو واضحاً، فالنظام لا يريد فعلياً عودة اللاجئين، لكونهم يشكلون، في معظمهم، الكتلة الاجتماعية الرافضة للمنظومة الحاكمة.

خلال العام الجاري 2018، تصاعد الحديث عن عودة اللاجئين، بموازاة الحديث عن إعادة الإعمار، فمن المعلوم أن عودة اللاجئين غير ممكنة من الناحية الواقعية من دون بنى تحتية قابلة لاستيعابهم، تتعلق بالسكن، والصحة، والتعليم، والنقل، والاتصالات، والطاقة، وغيرها من الخدمات الضرورية لتأمين عودتهم واستقرارهم، وكل ذلك يعني ضخ أموال طائلة في عمليات الإعمار، وعودة اللاجئين، وحتى الآن لا يبدو واضحاً كيف سيتم تأمين تلك الأموال، في ظل وجود حالة من الاستعصاء حول طبيعة المرحلة الانتقالية، أو الشكل النهائي الذي ستتخذه خارطة المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية في سوريا.

ما يتغافل عنه المجتمع الدولي، وما لا يسعى إلى نقاشه، بما يخص موضوع اللاجئين، هو ما يريده اللاجئون أنفسهم، فهم في اعتبارات العديد من الدول أزمة ينبغي حلها، لتقليل تبعاتها على العالم المتحضر، بغض النظر عن مستوى قبول أو رفض اللاجئين أنفسهم للعودة إلى بلدهم.

من المعروف أن حق العودة هو حق مكفول في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، الصادر في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948، حيث تنصّ الفقرة الثانية من المادة الثالثة عشرة على أنه "لكل فرد حق مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده وفي العودة إلى بلده"، وقد ناضل الفلسطينيون، انطلاقاً من هذه المادة، من أجل تثبيت حق العودة، عبر قرار أممي، وهو ما تحقق في قرار الأمم المتحدة رقم 2649، بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970.

وكشفت الممارسات الفعلية للسياسة الدولية، بعيداً عن التصريحات الرسمية، أن المجتمع الدولي غير معني فعلياً بتغيير النظام الحاكم في سوريا

إن ما يخشى منه هو استمرار عملية الاختزال الذي تعاطى بها المجتمع الدولي مع المسألة السورية، فقد سعى المجتمع الدولي، لأسباب عديدة، لاختزال الصراع السوري، منذ عام 2014، بالحرب على الإرهاب، وكشفت الممارسات الفعلية للسياسة الدولية، بعيداً عن التصريحات الرسمية، أن المجتمع الدولي غير معني فعلياً بتغيير النظام الحاكم في سوريا، كما أن السلوك العملي للنظام الدولي أظهر حالة استهتار كبيرة بآلام وحقوق السوريين المتعددة، ومن أهمها الحق في اختيار النظام السياسي الذي يمثلهم، وقبل ذلك الحق في رفض نظام باتت مهمته الأولى إبادة واعتقال معارضيه، للاستمرار في الحكم، ولا يخفى عن العالم أن الأرقام الرسمية تشير إلى حوالي نصف مليون سوري، قضوا ضحية للصراع، أي ضحية رفض تغيير النظام، بالدرجة الأولى.

 ثمة مؤشرات عديدة، ظهرت في العام الأخير، تظهر مزيداً من التضييق على السوريين في بلاد اللجوء، خصوصاً في لبنان، الذي تجري فيه عمليات ضغط على اللاجئين من أجل العودة إلى بلدهم، من دون أية ضمانات حقيقية، حول مصيرهم، وبالفعل فقد تعرّض عدد من العائدين للقتل، أو الاعتقال، وتشير بعض المصادر إلى اعتقال حوالي 700 من العائدين منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحيث إن البعض أطلق سراحه، بعد التحقيق معه، فإن البعض الآخر لا يزال رهن الاعتقال.

ما ينبغي الدفاع عنه اليوم ليس فقط حق عودة اللاجئين السوريين، وإنما أيضاً الدفاع عن حقهم في عدم العودة

ما ينبغي الدفاع عنه اليوم ليس فقط حق عودة اللاجئين السوريين، وإنما أيضاً الدفاع عن حقهم في عدم العودة، فأي معنى اليوم في عودة اللاجئين إلى بلد تحكمه السلطة السياسية والأمنية والعسكرية التي أسهمت في تهجيرهم، وفي تهديم بيوتهم، وقتل ذويهم وجيرانهم ومعارفهم، ولا تزال تخفي عشرات الآلاف من المعتقلين، الذين لا زال مصيرهم مجهولاً، وبناءً عليه فإن الدفاع عن حق عدم العودة هو وقوف ضد السياسات الدولية الساعية إلى اعتبار مفهوم البلاد الآمنة يرتبط فقط بالبلاد التي توقف فيها الصراع المسلح، أو انخفض مستواه، وهو ما يعني، من الناحية العملية، وضع مصير أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في مهب المجهول.