دبلوماسية ما تحت الطاولة

2018.06.21 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد العملية العسكرية لقوات نظام الأسد وحلفائه في حلب 2016 حدث تبدل كبير في مسار أحداث الأزمة السورية عسكريا وسياسيا، حيث ازدادت قناعة النظام بقدرته على حسم النزاع عسكريا، كما أن حليفه الروسي أراد استثمار هذا الانتصار في الحقل السياسي ليبين لبقية الأطراف المعنية بالصراع في سوريا على أن موسكو تمتلك اليد الطولى فيها، وفي هذا السياق عملت روسيا على نقل الملف السوري من أروقة الأمم المتحدة "جنيف" إلى أروقتها الخاصة "أستانا. سوتشي" لتأكيد وصايتها على المسألة السورية.

ومع أن الروس لم يحققوا حتى اللحظة إنجازا سياسيا ملموسا إلا أنهم نجحوا عقب معركة حلب في مساعدة النظام على تحقيق مكاسب ميدانية في مناطق إدلب ودير الزور وصولا إلى معركة الغوطة الشرقية آذار الماضي والتي نتائجها لا تقل أهمية عن نتائج معركة حلب، حيث تشجع النظام ومن خلفه روسيا وإيران على تنفيذ عمليات عسكرية متتالية لإنهاء ما تبقى من فصائل المعارضة المسلحة وفرض السيطرة على الجيوب التي ما تزال خارج قبضته.

ولكن حدث ما عرقل تنفيذ هذه العمليات بمعنى آخر ما منع نظام الأسد عن رغبته في حسم  الصراع لصالحه عسكريا،

أظهر ترامب في مواقف ميدانية عدة  قدرة بلاده على قلب الطاولة على رؤوس الروس والإيرانيين في سوريا

حيث أن مثل هذا الانتصار يعفيه من أية التزامات تأتي بها تسوية  دولية أو على الأقل يساعده  على فرض شروط المنتصر، ولكن هذا لم  يعجب أمريكا وإسرائيل اللتين أرسلتا رسائل عسكرية إلى النظام  وحلفائه  وكانت رسائل إسرائيل موجعة  ميدانيا وسياسيا، وقد قرأ الروس والإيرانيون والنظام تلك الرسائل بجدية وأدركوا مضامينها جيدا، وتأكدوا بأن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعاطيها مع الملف السوري تختلف كثيرا عن إدارة سلفه باراك أوباما، حيث أظهر ترامب في مواقف ميدانية عدة  قدرة بلاده على قلب الطاولة على رؤوس الروس والإيرانيين في سوريا، وقد فهم هؤلاء الدرس حين وجهت المقاتلات الأمريكية ضربة مميتة إلى ميليشيات روسية  في ريف دير الزور وقطعت الطريق أمام  جيش النظام في محاولته التقدم  نحو مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية" قسد".

وحتى يؤكد ترامب صلابة موقفه حمل صواريخ توماهوك رسائل تحذيرية الى رأس النظام وحلفائه ومفادها أن واشنطن لن تسمح لموسكو وطهران الانفراد بالملف  السوري وإيجاد تسوية على مقاسهما ما لم تستجب موسكو لمطالب أمريكا وإسرائيل.

وحيث أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك بأن ترامب يتعاطى السياسة بطريقة رجل أعمال وليس بأسلوب رجل دولة فقد وجد أن من الأفضل فيما يخص الشأن السوري هو التحاور مع الأمريكيين بطريقة" دبلوماسية ما تحت الطاولة" حيث يمكن للمتحاورين التحدث بصوت عال عن مساومات وصفقات وتبادل منافع.

وبما أن المسائل العالقة كثيرة ومتشابكة فإنه يجب منح دبلوماسية ما تحت الطاولة وقت كاف ريثما يتم التوصل إلى عقد صفقات ترضي الفريقين، وهذا يفسر حالة الهدوء النسبي التي تشهدها مناطق الاشتباك وكذلك ركود الجهد السياسي المبذول لإيجاد مخرج للأزمة السورية.

هناك مسائل كثيرة  يساوم عليها الروس والأمريكيون تحت الطاولة، ولعل أبرزها مستقبل النظام ورأسه يكون مادة محورية لعقد الصفقات فقد يقررون الإبقاء عليه وإعادة تدويره بالحفاظ على رأسه أو إزاحته وقد يؤجل البت في مصيره إلى ما بعد طبخ تسوية سياسية، وهناك من يتحدث عن عروض تقترح الإبقاء على النظام مقابل إخراج الإيرانيين من سوريا، وهذا قد يفتح شرخا بين الروس والإيرانيين الذين  يرفضون الخروج من سوريا وكذلك يرفضون المساس بالنظام، فيما الروس  يبدون أكثر انفتاحا حين يجري الحديث عن مستقبل النظام، هذه المعضلة سوف تطيل أمد دبلوماسية ما تحت الطاولة وقد تؤدي إلى فشلها وبالتالي قد نشهد عاصفة هي الأعنف من بين تلك التي عصفت بالشعب السوري طيلة سنوات الأزمة.

ثم تأتي مسألة مناطق خارج سيطرة النظام ولكل منها خصوصيتها وحساسيتها ومنها المنطقة الكوردية في الشمال الشرقي والشمال فقد أسس فيها حزب الاتحاد الديمقراطي المحسوب على الكورد إدارة ذاتية لها جيشها وأمنها الداخلي وأجهزة مدنية "وزارات" الإدارة المحلية، ويعتبرPYD  شريك محلي قوي  للتحالف الدولي في محاربة الإرهاب حيث توجد قواعد وقوات أمريكية بالمنطقة ومؤخرا انضمت إليها قوات فرنسية، وتكمن مشكلة هذه المنطقة  في نقطتين الأولى هي رغبة النظام بالسيطرة عليها وإنهاء إدارتها الذاتية ولكن حتى الساعة قوات التحالف تضع نقاط حمراء أمام جيش النظام ولا يعرف هل تستمر واشنطن في توفير الحماية لهذه المنطقة أم إنها مقابل صفقة ما يمكن أن تتركها لمصيرها ليدخلها جيش النظام، أما النقطة الثانية فهي رفض تركيا لوجود إدارة كوردية قرب حدودها الجنوبية خاصة في المنطقة غرب  الفرات التي لا تحظى بحماية أمريكية،

مصير الشعب السوري بات رهن دبلوماسية ما تحت الطاولة وما ينجم عنها من مساومات وصفقات بين الأقوياء وليس بين السوريين

وقد دخل الأتراك إلى عفرين ويجري الحديث عن صفقة أمريكية-تركية تخص منبج وعلى ما يبدو أنها لا تحظى برضا موسكو التي تتطلع إلى تسليم المنطقة إلى جيش النظام، فهل تنجح في إغراء واشنطن بصفقة دسمة تتخلى بموجبها عن حماية المنطقة ما يسمح للنظام بالسيطرة عليها، وتعتبر درعا أيضا من المناطق الحساسة في جنوب البلاد كونها تمس أمن إسرائيل مباشرة والتي لن تقبل تواجد إيراني قرب حدودها ولهذا لن يسمح لقوات النظام بالدخول إليها ما لم تحصل أمريكا على صفقة تضمن سلامة حدود إسرائيل وهناك  تسريبات تتحدث عن السماح لجيش النظام بدخول درعا مقابل التعهد بأبعاد الإيرانيين عنها، ومن المناطق الهامة أيضا إدلب في الشمال الغربي والتي قدم إليها مقاتلو الفصائل المسلحة  من مناطق سورية عدة ويتقاسمون قوات النظام  السيطرة عليها ويخطط الروس في بسط سيطرة النظام على المنطقة كلها وهذا يحتاج إلى عقد صفقة مع الأمريكيين قد يكون  عنوانها محاربة الإرهاب.

بناء عليه فإن مصير الشعب السوري بات رهن دبلوماسية ما تحت الطاولة وما ينجم عنها من مساومات وصفقات بين الأقوياء وليس بين السوريين ثمة قوي يرفض أن يكون شعبه وبلاده ورقة يتم المساومة عليها من قبل الآخرين.