خدعة الشرق الأوسط الجديد.. طفرة العصبيات وانهيار المؤسسات

2019.08.22 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الانحدار الفكري والسياسي الذي تعيشه البشرية في هذه الحقبة الزمنية، تحوّل مفهوم السياسة من فنّ الممكن، إلى فنّ صناعة الأساطير، أو فن اختراع القضايا المبنية على قلب الوقائع. يتمثّل هذا الانحدار في عنصريات تتنامى شرق العالم وغربه، من الهند إلى أوروبا، ومن روسيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بمنطقة الشرق الأوسط. وهذا نتاج لسقوط مملكة الأفكار، بحيث لم يعد الصراع فكرياً ولا طبقياً، إنما صراعاً عرقياً طائفياً ومذهبياً. يتمّ تغليفه بمملكة جديدة من الأفكار التي تقوم على مبدأ صراع الحضارات أو العصبيات.

ويمعن هذا النوع من الانحدار، في حالة التناقض الفاضحة التي تعيشها الدول في ما تقدّمه من رؤى سياسية، فالإدارة الأميركية التي تتدّعي حمايتها لدول الخليج، لقاء أموال واستثمارات هائلة، لم تقدّم ما يلزم لتوفير الحماية لحليفتها الأساسية في منطقة الشرق الأوسط المملكة العربية السعودية، عندما طالتها الهجمات الإيرانية والحوثية التي استهدفت ناقلات النفط ومعابره. لا بل عندما أرخى التصعيد بظلاله على الخليج في إطار حرب المضائق والمعابر والممرات، خرج دونالد ترمب معلناً عدم مسؤولية بلاده عن حماية أمن الخليج أو أمن النفط. وهي وفق المصطلح الأعمّ، اعتزال واشنطن تكبّد تكاليف الأمن العالمي الذي رسى على كتفيها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.

وهذا يتجلى بمعان أخرى في الداخل الأميركي، يختصرها شعار أميركا أولاً، وما يعنيه من سقوط النظام العالمي الذي نمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز مقولة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما. الوجهة التغييرية الأولى في بنية هذا النظام العالمي، تنطلق من مبدأ، أميركا أولاً، روسيا أولاً، بريطانيا أولاً في ظل البريكست والانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

ومن نتائج سقوط مملكة الأفكار أيضاً، انقلاب في مفاهيم السياسة الأميركية في عهد دونالد ترمب، الذي يعبّر صراحة عن توجهات المجتمع الأميركي، وهي توجهات كانت سابقاً عبارة عن شعارات "يسارية" أو "شيوعية" في عقود خلت، فمطلب ترمب بإسقاط وفكفكة الاتحاد الأوروبي، والذي يلتقي مع غاية استراتيجية روسية، هو بحدّ ذاته مطلباً سوفييتياً وشيوعياً قديماً، لأن أصحاب هذا النهج كانوا يعتبرون الاتحاد الأوروبي تجمع للقوى الرأسمالية، واتجاه ترمب إلى الانسحاب من أزمات المنطقة، لصالح الاهتمام أكثر بالداخل الأميركي، أيضاً تمثّل شعارات شيوعية كانت تطالب بغياب واشنطن عن التأثير في مجريات الأحداث في دول المنطقة.

النظام السوري يدّعي منذ أكثر من أربعين سنة محاربة إسرائيل، بينما هو أقصى احتياجاتها، وهي تشكّل رافعته وحاضنة بقائه وصانعة إعادة تعويمه

يدّل هذا الانقلاب في المفاهيم، على السخرية القدرية التي ضربت الأفكار السياسية، بشكل لا يبدو منطقياً حتى الآن، وغير مفهوم أو مبرر علمياً، إلا أنه فقط نتاج لسقوط ممالك الأفكار وصراعاتها، لصالح صراعات على المردود بما يحتويه من نزعات عنصرية ويمينية متطرفة. والأسوأ من ذلك، أن انقلاب هذه المفاهيم يجد ما يلاقيه في التوجهات السياسية المستحكمة في منطقة الشرق الأوسط، والتي لا تبدو بعيدة عن هذه التوجهات، على الرغم من ادعائها لمناهضتها، وهذا مسار يقوده مثلاً النظام السوري الذي يدّعي منذ أكثر من أربعين سنة محاربة إسرائيل، بينما هو أقصى احتياجاتها، وهي تشكّل رافعته وحاضنة بقائه وصانعة إعادة تعويمه.

قبل أيام، خرج أمين عام حزب الله حسن نصر الله، معلناً أن انتصار حزبه منع قيام الشرق الأوسط الجديد، والذي يمثّل وفق قوله، إسقاط النظام السوري، ضرب المقاومة في لبنان، تكريس الاحتلال الأميركي للعراق، وعزل إيران بالعقوبات لإخضاعها. ادعى نصر الله إحباط هذا المشروع، وسط قلب واضح للوقائع وسياقاتها، متناسياً أن إسقاط سوريا، تم بسواعد النظام وبراميله وأسلحته الكيماوية، وبمساعدة حزبه والدولة الراعية له وهي إيران المتحالفة مع روسيا.

وهذه الوقائع التي يقلبها محور الممانعة، تبدو واضحة المعالم، لأن صورة الشرق الأوسط الجديد يتم رسمها انطلاقاً من سوريا، وما شهدته من تمزيق لجغرافيتها، وتهجير ديمغرافي ممنهج مدعوم دولياً لتبرير قيام هذا الشرق الأوسط الجديد، على أساس النزاعات الطائفية والعرقية والإثنية، والتي لم تعد تقتصر على سوريا فقط، بل تتنامى في لبنان، العراق، وصولاً إلى اليمن الذي أصبح على شفير التقسيم شمالاً للحوثيين وجنوباً للخليجيين. وبخصوص العراق، فأيضاً تكاملت صورة الشرق الأوسط الجديد، بالتكافل بين الأميركيين والإيرانيين في المعارك التي خيضت ضد تنظيم داعش، وتهجير مناطق عن بكرة أبيها، لإعادة تكوينها ديموغرافياً بما يتناسب مع منطق "القوميات" التي يتم تعميم نماذجها عالمياً، وصولاً إلى تبرير "قومية ويهودية إسرائيل".

ولبنان بحدّ ذاته، ليس بعيداً عن الوجهة الجديدة للشرق الأوسط المراد تكريسه، والذي افتتحها بتسوية دولية أدت إلى تسليمه لحزب الله، وستستكمل بمفاوضات مباشرة بين الدولة اللبنانية وإسرائيل لترسيم الحدود، والتي لن يكون النظام السوري بعيداً عنها بشكل يتشابه مع المفاوضات التي كان يضطّلع بها النظام مع الإسرائيليين طوال العقود الأربعة الماضية، والتي فضحها مسؤولون إسرائيليون، وأعلنها أحد أركان اقتصاد النظام رامي مخلوف بقوله إن أمن إسرائيل من أمن سوريا.

انقلاب المفاهيم، أو تغيير وقائعها، يفترض بمن يعملون على تنفيذ هذا المشروع، نكرانه أو ادعاء مواجهته لإسقاطه، بينما هم يشرعون في مواجهة أبناء المنطقة ودولها المركزية، بهدف تكريسه، إلا أن الصراع يبدو في مكان آخر، وهو من الذي سيبرم الاتفاق على الصورة الجديدة لهذا الشرق الأوسط الجديد، وليس بين من يواليه ويواجهه. وطبعاً بما أن إيران وحزب الله هما في الطرف الأقوى، الذي استطاع تغيير المعادلات من سوريا بسحق الثورة، إلى غيرها من البلدان، فهما اللذان سيبرمان الاتفاقات ذات المصلحة والصلة بهذه الصورة الجديدة للمنطقة، والتي يدعون مواجهتها. والمشكلة الأكبر، والأكثر خطورة، هو أن الانحدار يطول شرائح اجتماعية وسياسية ودولتية واسعة، تدفع بالكثيرين إلى تأييد هذا المشروع على الأساس العرقي أو الطائفي أو العنصري، تشكّل روافد داعمة لهذا المسار التفتيتي الذي تشهده المنطقة والعالم.