خامنئي لا يريد أن يرمي اليهود في البحر

2018.06.19 | 02:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كأنه يرد اتهاماً، أو يصدر عفواً عن المغضوب عليهم، أو يطلق مبادرات حسن نية، فاجأنا الولي الفقيه بتغريدة غير مألوفة حشد فيها جملة من الأفكار أطلقها دفعة واحدة. ففي نفيه لإرادة الرمي باليهود في البحر، عن جمهوريته الإسلامية التي لا تعيش أفضل لحظات تاريخها، لم ينس خامنئي أن يلصق هذه "التهمة الشائنة" بجمال عبد الناصر، ربما ليترك للاستكبار الغربي أن يقارن بينه وبين الزعيم القومي العربي الراحل، فتكون المقارنة، بداهة، في مصلحته. ففي دور المدافع عن "حل ديموقراطي" (!) للقضية الفلسطينية، على حد تغريده الشادي، يبدو الإمام الحاضر جاهزاً لاستدراج عروض بالظرف المختوم، أسوةً بزميله الآسيوي النووي كيم جونغ أون، بل في موقع أفضل منه، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأخير لا يلغو بمزاعم ديموقراطية لإغواء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقابل "سلة حوافز" يقدمها الولي الفقيه المعتدل (!): جب كل التصريحات الإيرانية السابقة عن "محو إسرائيل من الخرائط" وما يعنيه ذلك ضمناً من اعتراف بحق الدولة اليهودية في الوجود؛ التشديد على ديموقراطية الحل، بوصفها سمة عصرنا والطريقة المثلى لحل المشكلات العالقة؛ وتقديم إيران في حالة طباق مع "الراديكالية العربية المناهضة للإمبريالية" ممثلة في جمال عبد الناصر.

ما زال هناك ما ينطوي عليه استحضار رمزية عبد الناصر في كلام خامنئي: فالزعيم المصري، في مرآة الاستعمار الغربي، هو، قبل أي اعتبار آخر، ذلك الرجل الذي أمم قناة السويس، فعوقب بالعدوان الثلاثي من فرنسا وبريطانيا وبمشاركة إسرائيل. أي أنه خرق "قواعد السلوك" المقبول من "المجتمع الدولي" عصر ذاك. فبهذا الاستحضار، أراد خامنئي القول إنه مستعد لاحترام تلك القواعد، بعدما لاقته قواته وقواعده العسكرية من الطيران الإسرائيلي على الأراضي السورية الشهر الماضي، وكذا بعد "العدوان الثلاثي الجديد" الذي تعرض له عميله في دمشق، وإن كان بضربات رمزية غير مؤثرة بالمعنى العسكري.

تنضح تغريدة خامنئي بـ"العقلانية" لفظاً ومضموناً، في اتساق مع معظم التصريحات الإيرانية الرسمية التي أعقبت انسحاب ترامب من الاتفاق النووي

تنضح تغريدة خامنئي بـ"العقلانية" لفظاً ومضموناً، في اتساق مع معظم التصريحات الإيرانية الرسمية التي أعقبت انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وما تلا ذلك من عربدة إسرائيلية وخيانة روسية لمقتضيات التحالف في الصراع السوري، بما يشي بأن قرار ترامب الأحادي، ليس مجرد انسحاب سلبي من الاتفاق النووي، ولن تقتصر عواقبه على تشديد العقوبات الاقتصادية التي أنهكت الاقتصاد الإيراني قبل التشديد، بل ربما يشكل إشارة البدء بالعمل على إسقاط النظام الحاكم في إيران، الأمر الذي ألمح إليه وزير الخارجية بومبيو في معرض عرضه للاستراتيجية الأميركية الجديدة بشأن إيران.

هي، إذن، ساعة الحقيقة بالنسبة لإيران، بعد فترة سماح مديدة، منذ الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق إلى اليوم، وشهدت فترتها الذهبية في سنوات حكم باراك أوباما، فسكرت القيادة الإيرانية بنشوة السيطرة على العراق، بعد 2003، وجمح خيالها نحو إحياء أمجاد امبراطورية غابرة، فحولت المنطقة الممتدة بين حدودها الغربية وشواطئ البحر المتوسط إلى بحر من الدماء، مستلحقةً أربع عواصم عربية على ما تبجح قادتها أكثر من مرة.

لكن إيران اليوم مستنزفة بالكلفة الباهظة لصراعات دموية، في سوريا والعراق واليمن، وبحصار اقتصادي مديد وخانق، شهدت شوارع مدنها انتفاضات شعبية عارمة عبرت عن نفاد صبر الرعية على الجوع والفساد ومناخات الحرب الحاكمة. فضلاً عن ألغام التنوع الاثني والمذهبي في بنية المجتمعات الإيرانية، ذلك التنوع الذي فشلت الثورة الإسلامية في استيعابه بما ينزع عنه صفة الألغام القابلة للانفجار عند اللحظة المناسبة، واستعاضت عنه بالقمع والإنكار، والتوجه إلى الدول المجاورة لتصدير الثورة عن طريق اختراق مذهبي مدمر لمجتمعاتها.

ويأتي فوق كل ذلك، الفشل في إنهاء الصراع السوري لمصلحة تأبيد حكم عائلة الأسد، وما يعنيه ذلك من استلحاق سوريا بكاملها للدولة الإيرانية. وهكذا تبدو الاستراتيجية الأميركية الجديدة لمحاصرة إيران ونزع عناصر استقوائها، كآخر مسمار في نعش نظام ولي الفقيه. من هذا المنظور يمكن ترجمة تغريدة خامنئي على أنها إعلان الاستعداد لتجرع كأس السم الثانية من بعد الكأس التي قتلت الإمام الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية.

أما "طريق القدس" فقد سبق لمقاتلي حسن نصر الله أن اكتشفوه في المدن والبلدات السورية التي اجتاحوها وقتلوا أهاليها وشردوهم

أما نحن السوريين، ممن قتلهم نظام الأسد التابع لإيران وشردهم في أربع أرجاء الأرض، فلنا قراءة إضافية لتغريدة خامنئي الذي لا يريد رمي اليهود في البحر: فقد كفى الرجل ووفى برمي السوريين في البحر، بدلاً من اليهود. بالمعنى الحرفي، لا المجازي فقط، إذا أخذنا بعين الاعتبار مئات، وربما آلاف، السوريين ممن ابتلعتهم أمواج بحر إيجة في طريق هجرتهم "غير الشرعية" إلى الشواطئ اليونانية.

أما "طريق القدس" فقد سبق لمقاتلي حسن نصر الله أن اكتشفوه في المدن والبلدات السورية التي اجتاحوها وقتلوا أهاليها وشردوهم. فحق لخامنئي أن يقول للأميركيين والإسرائيليين: يا جماعة، أسأتم فهمنا. الرمي في البحر هو للسوريين، والقدس هي حلب!