حين يغدر الثوار بالثورة

2019.06.14 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أصدرت جامعة حلب الحرة، الكائنة في مدينة اعزاز المتاخمة للحدود التركية، بتاريخ ( 11 – 6 – 2019 ) قراراً يقضي بفصل أحد كوادرها التدريسية، وهو الدكتور (محمد صابر العمر) المدرس في كلية التربية، وأرجعت جامعة حلب الحرة قرار الفصل إلى ( معلومات واردة إلى رئاسة الجامعة من بعض الطلاب، بقيام الدكتور محمد صابر العمر ..... بالإساءة إلى رمز من رموز الثورة السورية، عبد الباسط ساروت،تقبله الله). كما تضمن القرار إحالة الدكتور محمد إلى مجلس تأديب في الجامعة.

وعلى إثر صدور القرار المذكور، شاع مقطع صوتي نُسب إلى السيد محمد صابر العمر، وتداولته وسائل التواصل الاجتماعي، ينفي فيه نفياً مطلقاً علْمه بما حدث، كما ينفي صحة ما نُسب إليه من اتهام، ويعزو قرار فصله من الجامعة إلى أسباب كيدية أو خلافات شخصية مع بعض الأفراد.

شاع مقطع صوتي نُسب إلى السيد محمد صابر العمر، وتداولته وسائل التواصل الاجتماعي، ينفي فيه نفياً مطلقاً علْمه بما حدث، كما ينفي صحة ما نُسب إليه من اتهام

قبل الانحياز إلى هذا الموقف أو ذاك، وقبل اللجوء إلى أي استنطاق لمجريات الحادثة وحيثياتها، يمكن التأكيد – ووفقاً لنص قرار الجامعة – أن إدارة الجامعة قد اتخذت قرار الفصل، بناء على ( ورود أنباء من بعض الطلاب)، وليس بناء على كلام مباشر ومسموع من الشخص المتهم، ثم إنها – إدارة الجامعة – قد أصدرت القرار قبل الاستفسار من المتهم ، واستيضاح ما إذا كان كلام ( بعض الطلاب) صحيحاً أم لا، بل صدر القرار بناء على الاستماع إلى طرف واحد، دون سماع الآخر، وهذه أول ثغرة قانونية أساسية، يمكن لها تقويض أركان الحكم الذي أصدرته الجامعة، علماً أن أكثر من عضو في الهيئة التدريسية، ومن زملاء الدكتور ( المُتهم)، قد أكدوا لوسائل الإعلام، أنهم حاولوا التأكد من صحة ما نُسب لزميلهم من خلال الحديث والتحرّي مع بقية الطلاب، فوجدوا أن لا صحة للاتهام ، ما يعني أن قرار الفصل كان جائراً بل باطلاً.

لستُ معنيّاً بالمعاينة القانونية لهذه الحادثة، ولستُ قاضياً ولا محامياً ولا صلة لي بعلم القانون، كما أنني لا أعرف السيد محمد صابر العمر، ولم أره في ما مضى مطلقاً، ولكن – يُخيّل إلي – أننا أمام حادثة تتجاوز في ماهيتها، وفحواها القيمي، التخوم الشخصية لحياة الناس، وتمتد لتطال المفاهيم والنواظم التي يدافع عنها السوريون، بل جميع أحرار العالم ، المدافعين عن كرامة الكائن البشري، وتحريم الظلم والامتهان، ذلك أن التهمة التي وُجهت للأستاذ الجامعي، هي ذات صلة وثيقة بالشأن السوري العام، وتتلخص بالإساءة الكلامية إلى الشهيد عبد الباسط ساروت، والشهيد الساروت إنما استمدّ هذه الحصانة التي يدافع عنها قرار الجامعة، من كونه رمزاً وطنياً للثوار السوريين، وليس من صفته الشخصية كمواطن سوري فقط، وهذا ما يجعلنا نميل إلى القول: إن القيمة الاعتبارية والرمزية للساروت إنما تستمدّ فحواها الجوهري من خلال امتثاله وتجسيده لقيم الثورة وتطلعات السوريين نحو الحرية والعدالة، وأعتقد أن الإجماع الشعبي الدافق نحو شخصية عبد الباسط، ما كان ليكون لولا بقاء الساروت – رحمه الله – مخلصاً لثوابت ثورة السوريين، بل الوجه الأكثر نقاء ونصاعة لانتفاضة الشعب السوري.

الحكم الذي أصدرته جامعة حلب الحرة بحق الدكتور محمد صابر العمر ، وبالإخراج الذي تم تداوله حتى الآن، تتناقض مضامينه وأهدافه تناقضاً مطلقاً مع القيم والثوابت التي نادى بها الساروت، واستشهد من أجلها، إذ إن اتهام المواطنين دون التحقق من الوقائع، وقذفهم بتهم الخيانة دون الاستناد إلى وقائع دامغة، يتطابق إلى حدّ بعيد مع ما كانت تلجأ إليه محاكم الأسد الميدانية والاستثنائية الأمنية حين كانت توجّه لمعارضي النظام الأسدي وخصومه إتهامات عائمة غائمة، ليست الغاية منها سوى النيل من الخصم، من مثل: ( إضعاف الشعور القومي – النيل من هيبة الدولة – إيقاع الوهن في نفسية الأمة إلخ)، بل إن قرار جامعة حلب الحرة يذكرنا بما قامت به الجهات الأمنية لنظام الأسد في أعقاب موت باسل الأسد شتاء 1994 ، حين قامت بحملة اعتقالات، طالت العشرات، وربما المئات من السوريين، وذلك تحت ذرائع مختلفة، فهي تارة بذريعة الشماتة بموت باسل الأسد، وتارة أخرى بذريعة عدم إظهار علائم الحزن، وما إلى ذلك من اتهامات، تفصح جميعها عن استمرار السلطة الأسدية في اختزال الوطنية السورية بأشخاص الحاكمين، وبالتالي تأليه الشخص، ليس بما يحمل من قيم تمثل السوريين، بل بما يحمله في شخصه.

الحكم الذي أصدرته جامعة حلب الحرة بحق الدكتور محمد صابر العمر ، وبالإخراج الذي تم تداوله حتى الآن، تتناقض مضامينه وأهدافه تناقضاً مطلقاً مع القيم والثوابت التي نادى بها الساروت، واستشهد من أجلها

لا شك أن المقارنة بين الحادثتين ليست منطقية، من جهة التناقض التام بين الثائر الشهيد عبد الباسط ساروت، وباسل الأسد الذي لم يكن سوى ( مشروع دكتاتور) آنذاك، إلّا أن المراد هو إبراز وجه التماثل في السلوك بين الجهات الأمنية الأسدية، والإجراء الذي اتخذته إدارة جامعة حلب الحرة.

إن الإخلاص للقيم التي تحملها وتجسّدها الرموز الوطنية، إنما يكون بالإخلاص والامتثال للتجسيدات الفعلية لهذه القيم، وليس للأشخاص بذواتهم، والدفاع الحقيقي عن المرحوم الساروت ينبغي أن يتجسّد بالدفاع عن حقوق الناس والحفاظ على كرامتهم بعيداً عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الإثنية، وكذلك بالانصياع للقانون والامتثال لقيم العدالة، وليس بالانقياد للدوافع الشخصية أو النزعات الثأرية، أو الاتهامات التي تفتقر إلى الأدلة والوقائع.

لقد جسّد استشهاد المرحوم عبد الباسط ساروت حالة من الإجماع الشعبي، تُبرِز بوضوح ناصع مدى تجذّر ثوابت وقيم الثورة في نفوس السوريين، بل أضحت هذه الحالة باعثاً على الامل لدى ثوار سورية نحو العودة إلى إحياء روح الثورة كما حملها الساروت وقبله أبو فرات وغياث مطر وعبد القادر صالح ورزان زيتونة ومي سكاف وفدوى سليمان والكثيرين غيرهم ممن لا يتسع المجال لذكر أسمائهم.

إن الدفاع عن هذه الرموز الوطنية والحرص على نصاعتها، إنما يتمثل بالدفاع عن القيم والثوابت التي استشهدوا من أجلها، أمّا التمجيد بهؤلاء الرموز من خلال تجريدهم من إرثهم القيمي الذي ناضلوا من أجله، فما هو إلّا سعي نحو التأليه المجاني الذي لا يتسق مع الحالة الإنسانية السوية للبشر، وبالتالي هو غدرٌ – بوعي أو بدون وعي – لجوهر ما نادت به الثورة السورية.