حين يختصر الوطن بطاغية

2019.05.26 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

نهار الجمعة (24 مايو/ أيار 2019) بكت رئيسة وزراء بريطانيا "تيريزا ماي"، وهي تقدم استقالتها من رئاسة وزراء بريطانيا، وقد قالت قبل أن يختنق صوتها بالبكاء: 

"أشعر بالامتنان؛ لأنني حصلت على فرصة خدمة بلدي الذي أحبه".

قبل أن تغص "ماي" بدموعها، فتنسحب إلى داخل مقر إقامتها، أوضحت أسباب استقالتها:

"بسبب عدم قدرتي على كسر الجمود الذي يكتنف عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي… يجب أن أستقيل… لقد وصلت إلى طريق مسدود، ولا أستطيع إدارة البلاد؛ لذلك أتقدم بالاستقالة"، وأضافت: “أصبح من الواضح لي الآن، أن مصلحة البلاد تقتضي وجود رئيس وزراء جديد؛ لأن الانقسامات كبيرة، وهوية بريطانية الأوروبية مهددة؛ لذا أعلن اليوم، استقالتي من زعامة حزب المحافظين”.

هنا، لابد من الإشارة، إلى أن "ماي" وصلت إلى رئاسة وزراء بريطانيا منذ ثلاث سنوات... ثلاث سنوات طغت عليها أجواء أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولقد فشلت جميع محاولاتها في الخروج باتفاقية تحقق التوازن بين مطالب المعارضة البريطانية ومطالب الأوروبيين؛ فقد رفضت المعارضة البريطانية الاتفاق، وهدد الاتحاد الأوروبي بقوانين مشددة تعزل بريطانيا عزلاً كاملاً عن محيطها الأوروبي، إذا خرجت بريطانيا من دون اتفاق مصالح مشترك.

لقد استقالت لأنها رأت أنها لن تتمكن من خدمة بلدها كما تريد

بريطانيا، الدولة التي تحتل المرتبة السابعة في تصنيف الاقتصادات الأقوى في العالم، فهي ليست بلاداً مدمرة، وليست بلاداً محتلة من جيوش أجنبية، وليست بلاداً قد تشرد نصف سكانها، وليست بلاداً قد انهار اقتصادها. ومع ذلك، فإن رئيسة وزرائها لم تستقل بسبب فضيحة ما، ولم تستقل لهزيمة ما، لقد استقالت؛ لأنها رأت أنها لن تتمكن من خدمة بلدها كما تريد.

قبل استقالة "ماي" بأربعة أيام فقط؛ أي في 20 مايو/ أيار 2019، ظهر "رئيس" سوريا بشار الأسد في افتتاح "مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف"؛ ليطلق واحدة من أغرب الأفكار في العالم، قائلاً:

"إن سوريا اليوم هي أفضل، ليس من فترة بداية الحرب فقط، بل هي أفضل من سوريا ما قبل الحرب...!". هذا، رغم أنف العالم كله، العالم الذي يتحدث عن أن سوريا تعيش أفظع مأساة عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، فسوريا: بلاد مدمرة، وسوريا بلاد منهارة اقتصادياً بكل معنى الكلمة، وسوريا بلاد قد تهجر نصف سكانها، وهي بلاد تستبيحها جيوش بعديدها وعتادها، وسوريا هي البلاد التي فقدت نحو مليون إنسان من ناسها... فكيف إذاً، والحالة هذه، يمكن أن نفسر هذه المفارقة المذهلة؟

لن أتحدث هنا عن التفسير العلمي، ولا عن الوجه الإعلامي للكذب وللتزوير الذي تمارسه وسائل إعلام الجهة الحاكمة في سوريا، ما أريد السؤال عنه، هو: كيف يمتلك شخص ما، شخص يحتل الموقع الأول في بلد ما، هذه المقدرة كلها على الكذب الصفيق بلا أي إحساس بالخجل، وبلا أي إحساس بالمسؤولية! ليس هذا فحسب، بل من أين تأتي هذه المقدرة على تصنيف ما يقوله على أنه من الحقائق، فهو - كما يدعي- لا يحب الكلام الإنشائي، ولا يحب الاشتغال على الجانب العاطفي للنفس البشرية، رغم أن كل ما يقوله مجرد كذب بالغ الوقاحة، أو وهم من أوهام مريض نفسياً!

منذ خطابه الأول بعد انفجار الثورة السورية في 30/3/2011، بدا بشار الأسد مثلما بدا اليوم، وكما بدا خلال كل مراحل هذه السنوات الفاجعة، بدا أنه غير معني بوطن، وغير معني بشعب، وغير معني بمستقبل، وغير معني بأي شيء مطلقاً، سوى بالعناصر التي تخدم هدفه الوحيد، وهو: البقاء للسلطة، والبقاء في السلطة. ومن دون هذا فلا معنى لأي معنى.

طيلة سنوات هذه المأساة السورية الفاجعة، لم تتبدل قراءة سوريا من قبل عائلة الأسد، فسوريا عندهم: ليست وطناً، وليست شعباً، وليست دولة، إلا بالقدر الذي يخدم السلطة: سلطة هذه العصابة في حكم سوريا.

إن ما يصدم، ليس في أن ترى عائلة الأسد سوريا مزرعة لها، ولا في أن تعلن ذلك بكل صفاقة، ولا في أن تمارس ذلك كل لحظة. إن الصادم، هو: أن يتشارك في هذه الرؤية سياسيون سوريون، ومثقفون سوريون، ومواطنون سوريون، فلا يرون سورية إلا مزرعة تملكها عائلة الأسد، ولا يرون في أنفسهم، وفي السوريين إلا عبيداً لبيت الأسد!

بالأمس، رحل عن سوريا واحد من أهم مفكريها في العقود الأخيرة، إنه الدكتور طيب التيزيني، فلم تهتم الدولة السورية برحيل هذا المفكر الذي أعطى سوريا حياته كلها، ولم تهتم حكومتها، ولا جامعاتها، ولا مفكروها، ولا ممن يوالون عائلة الأسد، بل تعمدوا تجاهله كما لو أنه متهم. نعم، إنه بنظرهم متهم؛ لأنه رسّخ جهده من أجل أن يفصل سوريا الوطن عن عائلة الأسد. وحدهم السوريون الذين ما زالوا يريدون سوريا وطناً، ودعوه بصفته السورية.

حين تختصر جهة حاكمة كينونة الأفراد الذين ينتمون إلى البلد الذي تحكمه إلى الولاء لها أو عدمه؛ فهذا دليل على انحطاط هذه الجهة الحاكمة

باختصار شديد: حين تختصر جهة حاكمة كينونة الأفراد الذين ينتمون إلى البلد الذي تحكمه إلى الولاء لها أو عدمه؛ فهذا دليل على انحطاط هذه الجهة الحاكمة، وعلى انهيار أربع جهاتها، وعلى الرغم من هذا فإن التاريخ قد قدم قصصاً كثيرة عن حالات مثل هذه، ومنطقتنا العربية تعجّ بقصص كهذه. لكن، أن يقبل مواطنو هذا البلد معياراً كهذا المعيار، وأن يصبح المعيار معياراً وحيداً للتصنيف، ولتحديد علاقتهم بأرضهم وناسهم؛ فهذه سابقة يكاد يتفرد بها موالو العصابة الحاكمة في سوريا.

اليوم، تلف الحرائق سوريا من جهاتها الأربع، ويصارع السوريون من أجل البقاء على قيد الحياة، ويتعرضون يومياً لكل أسباب الموت، وينامون كل ليلة على سؤال بالغ القسوة يتكثف بالبقاء على قيد الحياة، بمجرد البقاء على قيد الحياة. ومع هذا، فإن الجهة التي تغتصب بلادهم وثرواتهم وقدراتهم ليست معنية بكل هذا، بل هي شريكة في قتلهم وموتهم وجوعهم وتشريدهم، وفي كل المصائب التي تترى في أيامهم. وعلى الرغم من كل هذا فإن مسبب كل هذا الخراب، لا يخجل من أن يعلن: أن سوريا الآن هي أفضل! 

تستقيل تيريزا ماي، والدمع في عينيها، من رئاسة حكومة بلدها، بينما يطلق بشار الأسد ضحكته البلهاء فوق أشلاء بلد يتمزق، ويحترق، مواصلاً فلسفته في انتصار الهباء على وطن لم يعد فيه إلا القهر والموت.