حينما يتقدم فأر الليرة على فيل الاقتصاد

2018.10.07 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يلتقط المنظرون تفاصيل جميلة عن الفروقات بين إعلام الأنظمة الديكتاتورية والديموقراطية. ويحددون أربعة فوارق رئيسة بينهما؛ التناقض الصارخ بين الحقيقة والافتراء. مستوى الحبكة الإعلامية للأكاذيب. وجود النخبة المؤثرة المعارضة للخداع. توفر البيئة القانونية الداعمة للحريات. العنصر الأول يفيض في "سوريا الأسد". قبل عدة أيام قال دريد درغام، حاكم مصرف سوريا المركزي، من حلب إنه "من السهولة تعزيز سعر الصرف ليصل إلى 200 ليرة لكل دولار".

حديث "الحاكم" عن قدرته في الدفاع عن الليرة يذكر بسمك الرنجة، المعروف برائحته الكريهة بعد نفوقه، الأمر الذي دفع باللصوص، قديمًا، - إلى استخدامها لتضليل كلاب الشرطة. واستعار الإعلام هذه الصيغة لتغدو دلالتها حرف الانتباه وتوجيه الاهتمام، بعيدًا عن القضايا المركزية، نحو قضايا أخرى، ثانوية، هامشية.

لم يوضح درغام كيف سينتشل سعر الصرف من مستوياته الحالية عند 450 ليرة لكل دولار! اكتفى فقط بأن المركزي لن يُقدم على هذا الإجراء، لأن "استقرار سعر الصرف يمنع التجار من رفع الأسعار بنسب كبيرة، ويمنع المضاربين من تحقيق الأرباح التي تعودوا عليها خلال السنوات الماضية".

التركيز عن أسعار الصرف، يُراد منها توليد بؤرة اهتمام جديدة عند مواطني "المجتمع المتجانس"، الذي يطمح بشار الأسد إلى صياغته، بحيث يتركز الاهتمام على وجود إمكانيات تصعد بالليرة نحو ذلك المستوى، وينسى المواطنون فقرهم وعوزهم وجوعهم والقضايا الجوهرية الأخرى التي أفرزها اقتصاد منهك حدّ الموت السريري.

لم يضع درغام كلامه في سياقات من الأرقام النقدية- الاقتصادية، توضح أن سعر الصرف سيتعزز مدفوعًا بزيادة الإنتاجية، وأن الأخيرة يدعمها، مثلًا، تعافي قطاعات الصناعة، الزراعة، الخدمات. لم يخاطب العقل عن طريق الرقم، الذي يوّلد معاني المؤشرات الاقتصادية المختلفة. أسعار الصرف تعكس صحة اقتصاد البلد.

في العادة هناك ثلاثة أنظمة لسعر الصرف: الثابت (المربوط بعملة أو سلة عملات). العائم (يحكمه العرض والطلب). التعويم المُدار (يتدخل المركزي بين حين وآخر). ولأن "المُدار والإدارة" من مزايا نظام الأسد الراسخة، بقي المركزي يدير أسعار الصرف، من خلال ربطها بسلة عملات، من دون أن ننسى تجار العملة، شركاء النظام.

التركيز عن أسعار الصرف يُراد منها توليد بؤرة اهتمام جديدة عند مواطني "المجتمع المتجانس" الذي يطمح بشار الأسد إلى صياغته

لايملك المركزي أي رافعة من روافع النهوض بسعر العملة المحلية. مثلًا هناك عجز مزمن في الميزان التجاري؛ العام الماضي بلغت قيمة الصادرات 700 مليون دولار، يقابلها 3.7 مليار دولار مستوردات. كما أن معدلات التضخم المرتفعة تقتضي تراجع سعر صرف الليرة. وليس آخرًا ذوبان كتلة الاحتياطيات الأجنبية، التي كانت تشكل حماية للاقتصاد، من 20 مليار إلى 700 مليون دولار على ما أكده البنك الدولي (ترك الأخير خانة سوريا فارغة في بياناته عن احتياطيات النقد الأجنبي العالمية لعام 2017). يتربع عدم الاستقرار الأمني على قائمة العوامل التي تضغط على أسعار الصرف، ليأتي الحاكم ويتحدث عن سهولة دفع الليرة بنسبة تفوق 100 %.

الإلهاء. تقديم قضية درجة ثانية أو ثالثة، على قضية مركزية، هي منهج عمل في نظام الأسد. كلنا نتذكر كيف كان التلفزيون يفحّ فحًا في "دفاعه" عن "فلسطين قضية العرب المركزية" لإلهاء المواطن عن طرح أسئلة تدور حول استحقاقات التنمية وعن حصته من الدخل الوطني، وعن الاستبداد الذي "هو أصل كل فساد".

استخدم الروائح الكريهة، طيلة عقود، للتضليل عن الهدف الرئيس، مع الرنجة يتم الرد على هذا النحو: سوريا بلد ممزق. يرد عليك إعلام الرنجة؛ انظر إلى الصومال نحن بألف خير. نظام الأسد دمر مابقي من البلد المدمر أصلًا، فيأتي الجواب: 139 دولة تهاجم وتحارب سوريا، كيف لا تريدها أن تُدمّر؟

برمج إعلام نظام الأسد قائمة طويلة من القضايا التافهة، ليبيعنا إياها على أنها قضايا نخب أول تحدد حاضرنا ومستقبلنا. بقي يبيعنا أحلام استعادة فلسطين والجولان السوري المحتل ويحيل إلى "العدو الإسرائيلي" سبب الجفاف وعدم هطول المطر!. نشرات الأخبار كانت كبائع متجول تنادي لبيع القضايا الكبرى صباح مساء.

بقي النظام بعيدًا عن المشاريع، السورية، المحلية، قابلة التحقيق. كل قوائم مشاريعه "عروبية"، فالعروبة لاتكتمل مع بناء الأوطان أولًا، والقومية العربية تنتهك في حال التفتت التنمية إلى الداخل!  لم يستعرض إعلام النظام يومًا طموح "الدولة" في تحسين جودة المناهج التعليمية، ولا حدثنا في أخباره وبرامجه عن فالق تنموي - يصل حلب (مثلًا) بالمحافظات الشرقية، الثرية بنبل ناسها، والغنية بظهر أرضها وباطنه- يوفر فرص العمل لمئات الآلاف العاطلين عن العمل.

الحديث عن رفع سقف طموحات الليرة، يأتي في ذلك الإطار. استبدال فيل بفأر...تراجع الناتج المحلي، بالأسعار الثابتة بنسبة 58% خلال خمس سنوات 2011- 2016 من 1537 مليار ليرة إلى 641 مليار ليرة. الاقتصاد الذي وصلت خسائره التراكمية إلى 226 مليار دولار يتحدث عن حيازة "منشطات" تدفع بالليرة قُدمًا، في ظل شح يصل حدود العوز إلى القطع الأجنبي. هي سوريا الأسد، حيث الشعار أكبر من ألف ألف مواطن.