حلب ذات الوجوه المتناقضة.. رد على مقالة "شهبا وش عملو فيكي؟"

2019.05.22 | 12:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بين سيل من ردود الفعل الغاضبة وقليل من آراء القانعين بما قدمه الصديق حسام جزماتي في مقالته "شهبا وش عملو فيكي؟"، ضاعت المقالة بما حملته من مضمون دسم يفترض أن يفتح أبواباً للنقاش لا أبواباً من الشتائم ضجت بها كثير من صفحات فيسبوك، باستثناء "شامات" أبدوا آراء عقلانية، تؤيّد المقالة في جوانب وتخطّئها في جوانب أخرى.

أهم أسباب الهجوم على المادة وصاحبها هو أن القارئ "الثائر" كان ينتظر من المقال تبريراً يشرح أسباب عدم انخراط كل المدينة في الحراك الثوري، مثل التشديد الأمني الاستثنائي الذي أطبق على أنفاس المدينة، إضافة للبنية المجتمعية الهشة في المدن الكبرى التي لا تساعد على تحريك الشارع كما حدث في المناطق الريفية ذات النسيج الاجتماعي المتماسك، وأسباب كثيرة أخرى.

نجح النظام في خلق صورة نمطية عن الحلبيين أنهم من جماعة "الله يطفيها بنوره" في أحسن الأحوال، ومن جماعة "بالروح بالدم" عند حاجته لذلك

زرع النظام قناعات تشيد بوقوف حلب إلى جانبه، وأعطى تطمينات مبطنة لأهلها أنهم سيكونون بمنأى عن العواقب التي تطال أبناء المناطق الثائرة، من خلال تعامل خاص مع أبناء المدينة على الحواجز وفي طرقات السفر والمطارات، انعكس سلباً على العلاقة بينهم وبين أبناء المناطق الثائرة، فدفع الحلبيون الثمن في العديد من حوادث الخطف وطلب الفدية أو سرقة السيارات أو الإهانات من أطراف محسوبة على الثورة في محيط حلب، وزاد الطين بلة القصف العشوائي المتكرر لفصائل من الجيش الحر على أحياء المدينة الغربية المحتلة.

نجح النظام في خلق صورة نمطية عن الحلبيين أنهم من جماعة "الله يطفيها بنوره" في أحسن الأحوال، ومن جماعة "بالروح بالدم" عند حاجته لذلك، هذه الصورة النمطية حملها الصديق حسام في مقاله وحمّلها لعموم الحلبيين، بل إنه أصدر حكماً أعطاه درجة الحقيقة التقريرية القطعية مفاده أن "حلب وقفت ضد الثورة من البداية"، متجاوزاً كل الظروف الموضوعية التي حالت دون انخراط المدينة في الثورة كما كان يتمنى كل الثوار.

يعتمد المقال على مقولة للشهيد عبد القادر الصالح "حلب لم تدخل الثورة، فأدخلنا الثورة إليها"، وهو ما برز في رأي الكاتب حول أن الأحياء الشرقية التي زُجّت في الثورة منتصف 2012 بدخول الجيش الحر من الريف إليها، قافزاً فوق العديد من الحقائق التي تثبت عكس ذلك، منها أن أول حي خرج عن سيطرة النظام كان حي صلاح الدين، وكانت القوة المسيطرة عليه من أبناء مدينة حلب، وبعد تحرير الحي بيومين بدأ دخول فصائل الحر إلى الأحياء الشرقية.

من الحقائق التي قفز فوقها المقال أيضاً أن الثورة لم تكن مقتصرة على التظاهر والحراك العسكري، إنما كان لها أوجه أخرى كالإغاثة، حيث استقبلت حلب أبناء النازحين على مراحل، بدءاً من نازحي حمص ثم نازحي ريف حلب، ثم النازحين من أحياء حلب المحررة إلى أحياء حلب المحتلة، الهاربين من قصف النظام، وعلى مدى أكثر من عام لم تتكفل "الأجهزة الحكومية الرسمية" بأية مسؤوليات تجاه النازحين، الذين كان بعضهم ميسوراً واعتمد على ذاته، في حين تكفّل أبناء حلب برعاية آلاف عائلات النازحين، من خلال تنسيقيات وناشطي الثورة الذين كانوا صلة الوصل بين حاجات النازحين وأموال المتبرعين من تجار حلب، ولم تقتصر هذه التبرعات على النازحين بل كانت تصل إلى مختلف المناطق المنكوبة.

وإذا أردنا أن نعتبر التظاهر هو معيار ثورية المدينة، فعلينا أولاً أن نطلق أحكامنا بناءً على عوامل موضوعية عادلة ووقائع ويوميات الثورة، حيث شهدت حلب العديد من تشييعات شهداء الثورة التي شارك فيها عشرات الآلاف، مثل تشييعي الشهيدين عمر حاوي وأحمد أبيض، كما شهدت مظاهرات ألفية استغلت غض نظر من الأجهزة الأمنية، أولها يوم بدر حلب في السابع عشر من آب 2011، وصل الثوار ليلتها إلى أطراف ساحة سعد الله الجابري حلم الثوار وعقدتهم المعنوية.

ولعلّ المشهد الأبرز في الحراك السلمي الحلبي كان يوم الجمعة الثاني من حزيران 2012، حين اندفع الثوار من عدة مساجد في حيي صلاح الدين والأعظمية، مستغلين تراخياً أمنياً من جهة النظام، لتتلاقى المظاهرات عند ملعب الحمدانية وينضم إليها عشرات الآلاف من أبناء المدينة، ويواصلوا الزحف وصولاً إلى أطراف ساحة سعد الله الجابري.

وفي الفترة ذاتها التي نضج فيها الحراك السلمي الحلبي كانت فصائل الجيش الحر تتحضّر للسيطرة على المدينة، مما ساهم في تغييب الحراك التظاهري رويداً رويداً لصالح الحراك العسكري أو لصالح حراك سلمي موازٍ فرضه واقع مسؤولية إدارة الشطر المحرر من المدينة بكل مفاصلها، والذي حمل الجزء الأكبر منه ثوار حلب على عاتقهم.

صحيح أن الحلبي يقول :"نحن أول مين بيعرف أنه هالنظام مجرم"، مستشهداً بأحداث الثمانينيات، لكن أبناء الثورة في حلب انطلقوا من هذه المقولة نحو مواجهة النظام، فيما جعلها رماديّو حلب حجة للهروب من المواجهة، لذلك فإن من سمّاه الصديق حسام "الحلبي النمطي" هو فعلياً "الرمادي الحلبي النمطي"، ولا يصحّ هنا اختزال كل الحلبيين ضمن هذه النمطية.

من يتابع حركة تشكيل تنسيقيات الثورة في حلب يدرك أن الفاعلين في الحراك الثوري، الذين يستحقون لقب "الفدائيين"، كانوا موزعين على شطري المدينة بشكل متوازن، ولم يكونوا "شامات" في حلب الغربية كما ذكر الصديق حسام، بل إن أهم نقاط التظاهر في حلب كانت في أحياء غربية، بدءاً من جامع آمنة في سيف الدولة ثم مظاهرات جامع الغفران في حلب الجديدة، ومظاهرات حي صلاح الدين التي باتت تستقطب الثوار من كل أنحاء المدينة.

من يتابع حركة تشكيل تنسيقيات الثورة في حلب يدرك أن الفاعلين في الحراك الثوري، الذين يستحقون لقب "الفدائيين"، كانوا موزعين على شطري المدينة بشكل متوازن

يثير الصديق حسام استياء كثيرين بقوله "القاطنين في حلب من أريافها وأرياف إدلب ومحافظات أخرى"، بطريقة تذكرنا بالمصطلح الدمشقي "برّا السور وجوّا السور"، وهو ما ذكّر كثيرين أن عمرهم الذي قضوه هم وآباؤهم وأولادهم في مدينة حلب ليس كافياً لاعتبارهم حلبيين، لأنهم لم يكونوا موجودين فيها أيام الشيخ كامل الغزي حين وثّق أسماء عائلات حلب في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، هذا الفصل بين "الحلبيين" و"القاطنين في حلب" لم يكن ليمرّ بقبول ورحابة صدر من جهة ثوار حلب من"القاطنين فيها"، والذين يرون أنهم حلبيون بحكم الولادة والعيش في حلب، وأنهم ينتمون ثورياً وعاطفياً وذاكراتياً إلى المدينة التي يذكرهم المقال أنها تأبى أن تمنحهم "جنسيتها".

حلب التي يصف المقال لياليها الرمضانية وبطونها الممتلئة وأراكيلها العامرة، هي رقعة صغيرة من المدينة، محصورة في الموكامبو ومقاهي الخالدية، وهي ذاتها التي طالما أراد النظام أن يختصر بها صورة حلب، متجاهلاً المشهد السوداوي الذي يعيشه الآن معظم أبناء المدينة القابعين تحت خط الفقر في ظل غياب معظم مقومات الحياة، وأولها فرص العمل التي اختفت مع توقف عجلة المعامل في مدينة يقوم اقتصادها على الصناعة.

حتى الرمادية في حلب -شأنها شأن باقي المناطق السورية- لها درجات، تتراوح بين فئة "كنّا عايشين" وفئة "الله يطفيها بنوره" إلى فئة "الطرفين مجرمين" وفئة "الله يحقّ الحقّ"، ولم يكن حياد هذه الفئات جميعها "ادّعاءً" كما ذهب المقال، فأكبر المسيرات المؤيدة التي شهدتها حلب لم تصل إلى حجم المشاركة في مظاهرة الثاني من حزيران 2012، حتى الجموع التي حشدها النظام في ساحة سعد الله، احتفالاً بـ"نصر حلب" وخروج الثوار من الشطر المحرر سابقاً، لم يتجاوز حضورها عشرة آلاف في مدينة يقطنها مليون ونصف على أقل تقدير.

ما كتبه الصديق حسام في مقاله أراه "جلداً للذات" وطوباوية يمارسها كثير من ثوار حلب بدافع الاعتذار عن عدم انخراط أغلبية أبناء المدينة في الثورة، وهو عبء إضافي وعقدة نقص يحملها كثير من ثوار حلب، لكن الحقيقة أن حلب، شأنها شأن المدن الكبيرة، لم يكن لها لون واحد، حيث خرج منها الشبيح والمؤيد و"المنحبكجي" والرمادي والمحايد والمتعاطف مع الثورة والثائر والناشط والمقاتل والشهيد.

من الظلم أن نرسم صورة نمطية تعميمية لمدينة بحجم حلب قدمت عشرات آلاف الثوار والشهداء والمعتقلين، ومن المهم أن نذكّر بهم وبعشرات آلاف المهجرين الثوار من أبناء حلب الذين صمدوا حتى آخر لحظة من الحصار والقصف الإجرامي الروسي الأسدي، وليست حقيقة مطلقة تلك التي قررها الصديق حسام حين قال: "لا ينفع هنا تذكر هؤلاء جميعاً"، مثلها مثل العديد من الجمل "التقريرية" التي تبناها في مقاله دون أدلة أو شواهد.

قد نتفق مع بعض ما ورد في المقال ونختلف مع بعضه الآخر، لكن مضمون المقال بحاجة لأبحاث ودراسات تقدّم مراجعات لملف الثورة في حلب من الإجحاف اختصارها في مقال رأي واحد، لنحصل على لوحة كاملة وموضوعية لكل ما حصل في حلب، بعيداً عن أية أفكار نمطية مسبقة من جهة وأية عبارات عاطفية شعاراتية من جهة أخرى.