حكايات من زمن الحرب

2018.11.03 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

 1 ــ الرقصة الجميلة

وقفتْ الملكة أمام مرآتها وسألتها بغرور:

ـــ هل هنالك مَن هي أجمل مني؟..

شهقتْ متعجبة من جواب مرآتها الذي تغير الآن بعد أن ظلّ نفسه زمناً طويلاً.

ـــ نعم.. هنالك من هي أجمل منك يا سيدتي..

كادتْ أن تنفجر غيظاً، فسألتها بحقد:

ـــ من هي؟. أرني صورتها..

عندئذٍ، وكأن زجاجها شاشة تلفاز، راحتْ المرآة تبث لها نقلاً حياً لمظاهرة هائلة لحشودٍ من الفقراء وهم في الشوارع، يشتمون كلّ شيء، يكسرون كلّ شيء، يحرقون كلّ شيء.

همستْ لها مرآتها بثقة:

ـــ هذه المظاهرة أجمل منكِ يا سيدتي..

لم تحتمل الملكة وقاحة مرآتها، فقذفتها بكأس ذهبية تشرب منها الماء.
تحطم كلّ زجاجها، وتحولتْ المرآة إلى فوهة فارغة.

فجأةً، قفز من هذه الفوهة المتظاهرون.

قتلوا الملكة، ثمَّ عثروا على الملك أسفل سريره فقتلوه أيضاً رغم توسلاته، وأشعلوا النار في كلّ الصالات والغرف والستائر بجنونهم الجميل.
في بهو القصر، الطفل بائع الكعك راح يعزف لهم على البيانو كيفما اتفق، ليرقصوا بفرح كثنائيات منسجمة مع بعضها بثيابهم الرثة كما النبلاء، غير آبهين للنيران التي أشعلوها.

رقصوا رقصتهم المفضلة، تلك التي حرموا منها لعقودٍ مريرة.

 

2 ــ الزعيم والمرايا

في هذه البلاد ثمة شيءٌ غريب يحدث منذ عقود، حتى صار بالنسبة لسكانها مع توالي الأجيال شيئاً اعتيادياً.

زعيم البلاد موجود في كلّ المرايا المنزلية الكبيرة والمتوسطة، وأيضاً في المرايا الصغيرة داخل الحقائب.

كلما مشط أحدهم شعره أمام مرآته، يشاهد فيها الزعيم يمشط شعره بذات التسريحة.

آخر يحلق ذقنه فيرى في المرآة الزعيم يحلق ذقنه.

رجلٌ ما يعقد ربطة عنقه، الزعيم كذلك وفي نفس المرآة يعقد ربطة عنقه.
زوجة تلون وجهها بألوان مكياجها، الزعيم في مرآتها يلون وجهه بألوان مكياجها.

مراهقة، وبطيش أنثوي، تشد فستانها على جسدها، وتستدير حتى تتأكد من أنها مغرية، ثمَّ تتأمل أرداف الزعيم على زجاج مرآتها.

مرّة.. ذبابة كانت تحلق أمام المرآة بسعادة، فلمحتْ الزعيم يحلق داخلها بسعادة أيضاً.

في شتاءٍ قديم، أراد أحد المخمورين أن يقتل الزعيم، وقف أمام مرآته وهو يترنح ثمَّ أطلق النار على رأسه ليسقط ميتاً، الزعيم في ذات المرآة أطلق النار على رأسه وسقط منها ميتاً.. لكنّه ظلّ حيّاً في بقية مرايا البلاد.

هذه الليلة وإثر وعكة صحية غامضة، تحشرج الزعيم قليلاً في سريره ثمَّ مات.

انتشر خبر موته همساً في كل البلاد، لم يصدق الناس الخبر، فتسللوا بحذر إلى المرايا في بيوتهم ليتأملوا وجوههم وهم يشهقون مندهشين.
بعضهم مسح بكفه زجاج مرآته غير مصدق، وبعضهم الآخر مسح بكفه على وجهه غير مصدق.

سرعان ما ابتسموا.. نظروا طويلاً في المرايا وهم يكتشفون بفرح للمرة الأولى ملامح وجوههم.

ملامح وجوههم التي حرموا منها لعقودٍ مريرة.

 

3 ــ بين المرآة والتلفاز

بصعوبةٍ كان يطارد وجهه في المرآة، وهو يحلقها منذ دقائق، ذلك البخار المتصاعد من صنبور الماء الساخن فوق المغسلة لوث المرآة بضباب ٍكثيف.. مما جعل عملية الحلاقة صعبة للغاية.

خلفه تماماً باب غرفة الجلوس، والذي يقابله من الجهة الأخرى، ذلك التلفاز وهو ينقل الآن آخر الأخبار الدموية عن تلك المدينة.

أزعجه كثيراً صوت التلفاز المرتفع، أما ضباب البخار الذي سيطر بشكلٍ نهائي على كل السطح الزجاجي للمرآة، فقد أوصل شتائمه ــ وبحنقــ حتى رأس لسانه.

كان يمرر بعصبية آلة الحلاقة على أعلى رقبته، عندما شعر بوخزةٍ حادة.. تأوه، وضع سبابته مكان الجرح، ثمَّ تأمل بقعة الدم عليها.

بنزقٍ مسح بطرف كمه نصف المرآة، علّه يرى ذلك الجرح، انحنى إليها وحدق فيها جيداً.

سرعان ما شهق بخوف وارتد إلى الخلف، وهو يرى في نصف المرآة صورةً دمويةً لمجزرةٍ جماعية.

أعيته الدهشة التي شلتْ ملامح وجهه لبرهة، أثناء تسارع خفقات قلبه.

صوت التلفاز أيقظه من هذه المفاجأة المريعة، بلع ريقه واستدار عن غير قصد، لينظر إليه من بعيد.

أمعن النظر به، شهق مجدداً وهو يلمح عن كثب.. هناك، في منتصف الشاشة.. جرح رقبته.

 

4 ــ البيانو

في عتمة غرفة الصالون أجهش هذا البيانو ببكاءٍ مرير وخافت، ففي المساء كان خطيب صاحبته قد أرهقه كثيراً وهو يعبث بأصابعه الخشنة بمفاتيحه.

مرّتْ بجانبه لمى صدفةً فانتبهتْ لبكائه، جلستْ أمامه مستغربةً، فهذه أول مرة منذ طفولتها تسمعه يبكي، داعبتْ بحنان مفاتيحه ثمَّ سألته عن سبب دموع.

صرخ البيانو في وجهها مقهوراً:

ــ أبعدي عني ملازمك الأول حتى لا أنتحر..

هزّتْ رأسها وهي تبتسم له ثمَّ همستْ بلطف:

ــ تصبح على خير..

وذهبتْ إلى غرفتها لتنام.

بعد مساءين، جاء خطيبها لزيارتهم مرتدياً ثيابه الرسمية الداكنة، غصّ وهو يقضم التفاحة بشراهة عندما قالت له لمى من بين والديها:
ــ أعتذر.. لا أستطيع أن أتزوجك.. فأنا مرتبطة..

وقف ليصرخ بحنق ورذاذ لعابه يتطاير عن فمه:

ــ ومن يجرؤ على الارتباط بك والجميع يعرف أنك ملكٌ لي؟..

بثقة وهدوء أشارتْ له لمى إلى تلك الزاوية، استدار الملازم أول فشاهد البيانو.

عندئذٍ.. ولأول مرة في حياته ودون أصابع أحد، راح البيانو يعزف موسيقى صاخبة تشبه كثيراً قهقهات ساخرة.

عض الملازم أول على شفته السفلى بحقد، ووجهه يتلون بلون الكراهية الغامق، ثمَّ انفجر أمامهم ــ من شدة الغضب ــ ليتناثر إلى مئات الحشرات الصغيرة والبشعة.

هذه الحشرات التي سرعان ما تجمعتْ إلى بعضها في سربٍ صغير، لتعبر من النافذة، حيث طارتْ إلى أقرب حاوية.