حرب أهلية في لبنان لإنقاذ إيران

2019.02.15 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن السجال الذي انفجر في المجلس النيابي اللبناني مؤخراً بين النائب عن حزب الكتائب نديم الجميل والنائب عن حزب الله نواف الموسوي بريئاً. عودة حزب الله إلى رفع عنوان وصول بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية عبر الدبابة الإسرائيلية ينطوي على استحضار مقصود لكل مقدمات وعناوين الحرب الأهلية.

يصر حزب الله عبر نائبه الذي يحرص على تقمّص دور المثقف على تحويل إمساكه بالسلطة في البلد إلى حق في تأويل تاريخها، وإدراجه في السياقات التي تتناسب ومشروعه، وهذا طموح لم تنسب أي فئة لبنانية على مدار تاريخ لبنان الحديث لنفسها الحق في القيام به.

لطالما كانت التيارات المتحاربة في البلد تطلق تأويلاتها الخاصة للتاريخ بوصفها سجالاً يقارع سجالاً آخر، أي لا تعدو كونها وجهة نظر تعلم أنها غير مُعدّة سوى للاستعمال الخاص الحزبي والطائفي والمذهبي.

الصراع الذي يخوضه حزب الله حالياً خطير أكثر مما يوحي به السجال المبرمج الذي فتحه الموسوي مع الجميل

الصراع الذي يخوضه حزب الله حالياً خطير أكثر مما يوحي به السجال المبرمج الذي فتحه الموسوي مع الجميل، والذي كان قد سبق بحملات من إعلاميين وصحافيين يدورون في فلك الحزب حول الموضوع نفسه، أي رئاسة بشير الجميل والنظر إليه باعتباره شهيداً أو حرمانه من هذا الوصف.

الحرب الحقيقية يخوضها حزب الله هي ضد الفكرة اللبنانية عموماً أو ما تبقى منها، فهو يعلم أن كل الانتقادات والسجالات حول بشير الجميل لا يمكن أن تلغي الفكرة التي كان ينادي بها، وهي الفكرة اللبنانية، بما تنطوي عليه من آمال وأوهام وإمكانيات وأحلام.

استحضار العنوان الإسرائيلي في هذه اللحظة ليس سوى محاولة لرسم خط فاصل بين لبنان بشير الجميل الذي يصفه الحزب بالإسرائيلي، وبين لبنان ميشيل عون الإيراني، الذي رافق السجال حول بشير التأكيد على وصوله إلى سدة الرئاسة من خلال بندقية المقاومة.

يقول للمسيحيين ولعموم اللبنانيين إن وصول الجنرال عون إلى سدة الرئاسة إنما جاء ليصحح التاريخ، ويرسم المعادلة الجديدة التي تخرج لبنان من دائرة العمالة لإسرائيل وتجعله في خدمة المشروع الإيراني المقاوم.

يتجاهل الحزب عن قصد مآلات الأمور في المنطقة والعالم والتحولات الكبرى التي انتجتها مشاركته في سفك دماء الشعب السوري، وتحوّل إيران إلى نوع من كابوس لشعوب المنطقة يوازي الكابوس الإسرائيلي بل ويتفوق عليه.

يتجاهل الحزب عن قصد مآلات الأمور في المنطقة والعالم والتحولات الكبرى التي انتجتها مشاركته في سفك دماء الشعب السوري

يفتعل أجواء حرب أهلية ليخفف الضغط عن إيران بعد أن قطعت الأقليات المسحوقة في الداخل الإيراني حبل الخوف والرعب، وراحت تحارب النظام بالطريقة نفسها الذي اعتمدها لنشر الرعب في صفوف خصومه، أي العمليات الانتحارية، مسقطة بذلك أسطورة التفوق التي طالما حرصت إيران على بثها من خلال تأكيدها على أنها تحارب ليس بالسلاح وحسب ولكن بالموت نفسه.

من هنا يتضح أن ما انتجته إيران ورعته من عداوات وخصومات ينفجر في وجهها الآن بعد أن كانت تطمح إلى تحويله إلى مشروع سيطرة ونفوذ، سواء في الداخل الايراني الملتهب، مرورا بسوريا وصولا إلى العراق.

ليس  مصادفة أن ترتفع وتيرة السجال في لبنان في اللحظة التي بات العالم فيها ينظر إلى إيران بوصفها تهديداً دولياً كما تدل التصريحات المتتالية الصادرة عن مؤتمر وارسو الذي يضم أكثر من ستين دولة، والذي يعتبر البعض أن عدم حصره بالموضوع الإيراني إنما يعني نجاح إيران في تبديل أجندة هذا المؤتمر.

ما لا تتنبه اليه الدعاية الإيرانية أن عدم حصر جدول أعمال المؤتمر بالخطر الإيراني يعود إلى أن مواجهتها باتت جزءا من عملية إعادة ترتيب النفوذ في العالم وليس مجرد صفقة معقودة بين أميركا والسعودية ودول الخليج، وهذا تحديدا ما يمكن النظر إليه كمؤشر على جدية مشروع ضربها وتطويعها.

يحاول حزب الله في ظل كل هذه الظروف أن يجعل من لبنان ساحة إيرانية أخيرة تنفجر فيها حرب أهلية تعيد ترتيب الأوراق، ولعل الاستنتاج المباشر الذي يخرج عبر تبني مثل هذا السلوك يقول إن حزب الله مشلول أمام قوته الخاصة، وأنه عاجز عن تدبير شؤونها وتصريفها في مسار آخر غير المسار الحربي والعسكري.

ينتج عن ذلك أن كل محاولاته للظهور في ثوب مدني "لايت" تبدو فعلا كاريكاتوريا، فالنائب الذي فتح السجال مع الجميل هو النائب الذي يحرص على ارتداء ثوب المثقف، ولكن معجمه اللغوي لم يستطع سوى أن يستحضر مفردات الدبابة وصاروخ الكورنيت.

هنا تحديدا يكمن جوهر الموضوع فالمؤشرات المؤذنة بزمان الحروب الأهلية تكمن في اللغة قبل كل شيء

هنا تحديداً يكمن جوهر الموضوع فالمؤشرات المؤذنة بزمان الحروب الأهلية تكمن في اللغة قبل كل شيء، ولعل السجالات التي تلت السجال الذي جرى تحت قبة المجلس نجحت في إعادة إنتاج اللغة التي يجيدها الحزب ويتفوق فيها، فقد طغت على سطح الحدث اللبناني مفردات كسر الأقدام وقطع الرقاب، وارتدى الكلام كله ثوباً مرقطاً.

يفتح حزب الله هذه المعركة في توقيت خاطئ، ولكنه يبدو مدفوعاً إليها بأمر إيراني كما كان الحال في قرار مشاركته في الحرب السورية، التي يؤكد الكثيرون أن تلقي الأمر الإيراني في هذا الصدد نزل على الحزب نزول الصاعقة.

يبدو أن إيران تريد إنزال صواعق كثيرة على رأس الحزب ورأس البلد، ولكن ما تغض النظر عنه أن ذلك النزوع الحربي الذي أيقظته في نفوس جميع الأطراف اللبنانيين الذي وحدتهم الإهانات الكبرى التي أغرقهم فيها الحزب، قد خلقت حلفاً عاماً ضده يسمو فوق السياسة المباشرة بما تتضمنه من مصالح. الإهانة التي وجهت الآن لبشير الجميل ولتاريخ المسيحيين، سبقتها إهانات طالت رفيق الحريري وكذلك إهانات طالت الدروز.

يرجح أن يخوض الحزب الحرب التي يبني عمارتها وحيداً من دون أي حليف، فما يجمع التناقضات اللبنانية التي لا حصر لها الآن هو العداء له، ولعل بنية التخويف التي كان يبثها في المجال العام كإستراتيجية لشل كل إمكانيات الاحتجاج، قد تحولت بعد أن عايش الناس الموت الأمني والاقتصادي والسياسي، وبعد ما يؤسس له حاليا من إعدام نهائي للكرامات والتواريخ والسير، إلى نوع من التخويف الخائف الذي لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا عبر جر الجميع إلى سلوك درب الانتحار.