حراك العسكريين المتقاعدين: حزب الله يفاوض على الرئاسة والأمن

2019.06.27 | 19:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يستدعي المشهد الذي فرضه العسكريون المتقاعدون على البلاد مشاهد سابقة، كان لحزب الله الفضل الأكبر في إنتاجها وتعميمها. يعيد العسكريون المتقاعدون في مشهديتهم المفلوشة حاليا على كامل البلاد مشاهد إحراق الدواليب وقطع الطرقات، مع صيغة خاصة تتمثل في أنهم قد أبدوا حرصا على صبغ ما أقدموا عليه بلباس الانضباط والاحتراف، عبر بيانات مسبقة عرضت لمفاصل التحركات اللاحقة، ورسمت خرائط الطرقات المقطوعة، وادعت أن المس بالمواطنين ممنوع مهما بدرت منهم من ردود أفعال.

ما أجج هذا الحراك وأطلقه كان التعبير عن رفض ما تنوي الحكومة اقتطاعه من مخصصات ومكتسبات مالية، ولكن ما تكشّف على أرض الواقع يعلن ببساطة أن هذا الحراك يستجيب في هذه اللحظة لمتطلبات مشروع يحرص حزب الله على تصنيعه انطلاقا من الأوضاع الداخلية، وخصوصا تلك التي ترتدي طابعا احتجاجيا.

في كل مفاصل الحركات الاحتجاجية القائمة حاليا يمكن تسجيل ملاحظة جوهرية نابعة من أنها تستهدف الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع

في كل مفاصل الحركات الاحتجاجية القائمة حاليا يمكن تسجيل ملاحظة جوهرية نابعة من أنها تستهدف الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع، وتتخذ منها رهينة لتحقيق المطالب. هكذا وبغض النظر عن نقاش شرعية هذه المطالب وعدم شرعيتها، فإن الطريقة المعتمدة للتعبير عنها تضع العسكريين المتقاعدين في مواجهة الناس والدولة، كما وضع حراك أساتذة الجامعة اللبنانية الأساتذة في مواجهة الطلاب.

لم تكن هذه المشاهد التي نلحظها حاليا بلا سياقات، بل تبدو وكأنها استكمال لسياقات كان لحزب الله اليد الطولي في إنفاذها وتركيبها بشكل لا يمكنها معه أن تسفر عن وجه احتجاجي فعلي، بل أن تصب دائما وأبدا في إطار تمكين سطوته، وقدرته على توظيفها في إطار معاركه الإيرانية.

تفريغ الجامعة للبنانية من خصوصيتها العلمية ومن كونها معمل إنتاج الأنتلجنسيا بدأه حزب الله منذ لحظة إطلاق بيانه التأسيسي، الذي شهد تهديدا لمن ينشرون العلوم الغربية في صفوف الطلاب،وكان يقصد بذلك بشكل خاص أساتذة علم الاجتماع والإنسانيات في الجامعة اللبنانية. تبع ذلك عملية تفريغ مقصودة للجامعة من الفاعلية حتى صارت هيكلا آيلا للتصدع،لا يملك أساتذتها طريقة للاحتجاج على أوضاعهم إلا من خلال وسيلة، لا تضعهم فعليا في مواجهة السلطة التي تمون على جزء كبير منهم أساسا، بل في مواجهة الطلاب، وبذلك فإن مناخ حرب أهلية يفوح من ظلال معركة تثبيت حقوق الأساتذة، لأن ما يلحق بها من عناوين لا تخضع لسيطرتهم ولا لسيطرة  الطلاب الذين يعتبرون أنفسهم متضررين، بل تسقط عليهم من فوق من عند الحزب الذي يجيد تماما ربطه بالأمن.

المسألة في موضوع العسكريين المتقاعدين أكثر عمقا وتعقيدا، فلا شك أن صورة الدواليب المحروقة والطرقات المقطوعة لا تتماشى مع مشاريع الإنماء، والسياحة، والمهرجانات، المؤتمرات الدولية ونقاشات الموازنة، وكذلك فانها قادرة أن تطلق، تأسيسا على هوية منتجيهامن العسكريين المتقاعدين، جملة من الرسائل تتصل بالداخل والخارج.

أولى الرسائل ترتبط بفكرة الدولة والسؤال حول وجودها ودورها، فبغض النظر عن العنوان الحقوقي، فإن قطع الطرقات ممنوع ويحق للأجهزة الأمنية أن تمنعه بالقوة، وهذا مشهد يشتهيه حزب الله حاليا بقوة في ظل صعود أسهم قائد الجيش الرئاسية، وبعد خروجه على الضوابط التي تمنعه من الحديث في السياسة أو تناول شأن مطلبي، وهو ما قام به احتجاجا على ما اعتبره نيلا من حقوق العسكريين المتقاعدين.

رئاسة باسيل تعني مشكلة مع المحيط العربي والدولي وهي لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار نزاع وحرب

يلعب حزب الله على هذا المجال لأنه يمسك بيده مفاتيح الحراك، ويمكنه اصطناع مواجهة بين العسكريين المتقاعدين و العسكريين في الخدمة الفعلية، تستجلب بدورها مجموعة من الانعكاسات على علاقة وثيقة بمعركة الرئاسة التي فتحت منذ فترة، بين حليفه الوزير جبران باسيل مرشح الأزمة المستمرة وبين قائد الجيش مرشح المفاوضات والتسويات، المقبول من واشنطن والخليج.

وقف جبران باسيل ضد مطالب العسكريين في حين أن الصهر الثاني لرئيس الجمهورية قائد فوج المغاوير المتقاعد شامل روكز ناصر الحراك بقوة، بشكل يفهم منه أنه يقصد التشويش على حملات باسيل الرئاسية أكثر من كونه انسجاما مع تاريخه العسكري، وبذلك فإنه يمكن للحزب أن يبيع أسهما في بورصة الرئاسة للجميع، و أن يستفيد من تأجج الخلافات بين أبناء التيار الواحد.

رئاسة باسيل تعني مشكلة مع المحيط العربي والدولي وهي لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار نزاع وحرب، يدفع الوزير والمرشح الرئاسي في اتجاهه بكل ما أوتي من قوة من خلال سلسلة من مواقف تصعيدية  يطلقها في كل الاتجاهات، بينما لا يمكن لرئاسة قائد الجيش الحالي أن تصبح ممكنة إلا في إطار تفاوض أميركي إيراني عربي.

من هنا فإن كل المشهديات التي تبرز على الساحة اللبنانية اليوم لا تقوم سوى بمهمة مراكمة الأوراق التفاوضية في يد حزب الله، الذي يحولنا بهمة كل تيارات البلد، وسياسييه، عسكره ومتقاعديه، إلى حشد مأساوي من الرهائن الرخيصة، المعدة للإهدار في سوق  تبادل الرسائل الملغومة.