جرأة الإعلام السوري

2018.10.02 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في المدرسة، كان أستاذ العلوم الاجتماعية في المرحلة الثانوية يُحب أن ينعتني بـ "صحيفة تشرين" ظنّاً منه بأنه لقب مُشرّفٌ لي وهو القادم من انتماء عقائدي متحجّز فُرِض عليه منذ نعومة أظافره وكان وسيلته للوصول إلى مقعد التدريس. وكان يحاول باللجوء إلى هذا اللقب ـ النعت بالنسبة لي ـ أن يُظهر تقديره لجرأتي في التعبير ولمتابعاتي السياسية في سنٍ كانت المتابعات الرياضية والفنية هي الغالبة. وقد ميزني عن باقي الطلبة بسبب نقاشاتي المستمرة وطرحي لمسائل "ممنوعة" نسبياً في ظل الرهاب المهيمن على الطلبة في مرحلة يتكوّن فيها الوعي بالعام من المسائل، وأهمها السياسة. وعندما أبديت امتعاضي النسبي من هذا النعت، أبدى استغرابه لنكران الجميل وشرح لي بأن هذه الصحيفة، التي لم أكن عنها بغافل، هي الأكثر جرأة بين الصحف "الوطنية" السورية التي لم يكن عددها يتجاوز الثلاث. وبأنها تستكتب مثقفين لهم سمعتهم الأدبية أو الفكرية، يقومون بنقد بعض سلبيات الحكومة دون وجل.

لقد تم تقديم هذه الصحيفة على أنها خروجٌ عن سرب "البعث والثورة" وهما الصحيفتان اللتان تكملان عنقود ثلاثي أضواء المسرح الإعلامي السوري، وذلك طوال عقود. والخروج عن السرب يعني اختلاف الحمولة الإعلامية ونسبة الانتقاد الوارد في صفحاتها. وعلى الرغم من أن أغلب من كان يشتري الصحف في سوريا، كان يستخدمها في مجالات حياتية متعددة بعيدة عن الإخبار والإعلام، إلا أنني كنت أتابعها كما شقيقاتها وكما حتى الصحيفة المحلية الوحيدة في مدينتي حلب واسمها "الجماهير" والتي كانت تحتاج قراءتها إلى 5 دقائق في أطول تقدير. وبالتالي، فعندما اعتبر أستاذي بأن تشرين جريئة المعالجة وتُمثّل "ثورة" في عالم الإعلام الموحد في سورياً وهي "بعثٌ" لطاقات إعلامية كانت مهمّشة، فهو قد حرّضني على الابتسام والتندر بهذه القصة طويلاً حتى تطور اهتمامي بالإعلام لأن أدرسه وأكتب عنه وفيه.

وبالفعل، وحتى ابتعد عن الكاريكاتورية في الطرح ولكي أكون منصفاً، فقد حاولت بعض الأقلام، في حدود الممكن والمتاح، أن تحفر ثقباً في جدار الصمم الفكري المهيمن والمُدار بعناية فائقة. وتم اللجوء أحياناً إلى المواربة الكتابية والخدعة الكلامية للتطرق إلى أمورٍ تتجاوز خطوطاً هي في احمرارها تُذكّر بلون الدم المنبعث من فم صحفي بعد أول صفعة من عنصر أمني ربما في المفرزة المولجة بحراسة مبنى صحيفته نفسها. وإمعاناً في الإنصاف، فقد اعتبرت لاحقاً، وبعد ظهور الصحافة "الخاصة" المملوكة من أبناء السلطة، بأن المهنية والجرأة التي كانت، على ندرتها، متوفرة للبعض في الصحافة الحكومية، قد غابت تماماً في هذه الصحافة التي أنجبتها حفلة عقد قران "التحديث مع التطوير".

في عودة إلى الانتقاد الذي أشار اليه أستاذي، فقد كان يُترجم مثلاً بتحقيقات طويلة ومدعومة بالصور عن مركز انطلاق الباصات المتجهة إلى المحافظات السورية. وفي مثل هذا التحقيق، هناك أصابع اتهام، بحجم إصبع الخيار المحلي الصغير للغاية، تُشير إلى سوء إدارة وتنظيم، يُسأل عنهما مدير "الكاراج". وفي توسّع أكبر لهامش الانتقاد، يتنطح أحد المحررين لاستعراض سوء الخدمات الطبية المقدمة في مستوصف ركن الدين. ويذهب في جرأته إلى درجة الإشارة إلى غياب الطبيب وقيام الممرض بلعب دور الطبيب، مع غمزة لئيمة إلى كون الطبيب من أصحاب النفوذ لارتباطه العائلي مع رئيس بلدية الحجر الأسود المدعوم من قبل صهره الموظف في تموين القدم. هناك إذا، إن شئنا، فضح لسوء الإدارة مع إشارة واضحة وصريحة إلى سلسلة الفساد أو المحسوبيات التي أدت إليه (...).

وفي النادر من الحالات التي تتطرق إليها صفحات الانتقاد المشار إليها، كانت هناك "فضائح" تطال مسؤولاً مهماً بعض الشيء، أي بمرتبة وزير، وأهميته تبقى نسبية للغاية. فيتم التعرض له إن كان القرار بتصفيته سياسياً وإزاحته عن بئر الفساد ليُفسح المجال لسواه قد صدر من المؤسسة الأمنوقراطية، فيصير حينئذ دريئة لكل أنواع الصفات السلبية التي ترد في مخيال الصحفي الموجّه. ومهما كانت وزارته هامشية كما شخصيته، فسيُشار اليه كالمسؤول عما تراكم من فضائح ومن سرقات ما فتئت تلوكها ألسن الناس بعيداً عن الإعلام. وبالتالين سيرتاح المتوهمون منهم بأن الفاعل قد سقط، وسيُشير البعض الآخر إلى نجاح الإرادة السامية في تنظيف المركب من الطفيليات والانطلاق به من جديد باتجاه مرفأ التنمية والازدهار.

منذ أيام، وبعد طول غياب، وقعت بالصدفة المحضة على موقع صحيفة تشرين "الجريئة" والتي تغرد "خارج السرب" لأقرأ مقالاً نقدياً بامتياز أعادني إلى أربعين عاماً مضت، وكأن أمر اليوم في مدخل الصحيفة هو "مكانك راوح". فيكتب أحد كتابها "الجريئين" عن أزمة رغيف الخبز (...). وفي تطور نوعي وفكري يُحسب له، يُحمّل المسؤولية إلى العاطلين عن العمل الذين يشترون الخبز من الأفران ليعودوا ويبيعونه في السوق السوداء. بل وأكثر من ذلك، فقد تعمّق هذا الكاتب في البحث ليكتشف بأن سعر الخبز أرخص من سعر الأعلاف المقدمة للحيوانات، فأزمة الرغيف تتأتى إذاً من شرائه لإطعام البقر.

"جرأة" في الطرح و"شجاعة" في الإفصاح و"عمقٌ" في التحليل لم تؤثر صفعات السنين في ديمومتها.