ثلاث سنوات على التدخل العسكري الروسي في سوريا

2018.09.30 | 23:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

جاء التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، 30 أيلول 2015، بعد أسابيع على إعلان رأس النظام الكيماوي عدم كفاية قواته للسيطرة على كل أنحاء البلاد، لينكشف لاحقاً أن قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني قد التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في موسكو، لإقناعه بإنقاذ النظام الذي عجزت طهران، برغم كل الدعم متعدد الأشكال الذي وفرته له، عن إنقاذه. وتواترت، منذ ذلك الحين، تصريحات مسؤولين روس وإيرانيين ومن حزب الله الإيراني في لبنان بصدد تدخلهم الذي لولاه لسقط النظام خلال فترة قصيرة تراوحت، وفقاً لكل تصريح، بين بضعة أسابيع وبضعة أشهر.

وفي بداية التدخل قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن المهمة ستنجز في سوريا خلال ثلاثة أشهر تقريباً. لا نعرف ما إذا كان هذا هو التقدير الحقيقي لموسكو، أم أنه كان مجرد طمأنة لجيشه بانسحاب مبكر، ولصد أي ردود فعل محتملة من دول أخرى. ومهما كان الأمر فالمرجح أن الروس لم يكونوا قادرين على تخمين أن تدخلهم العسكري سيستغرق أكثر من ثلاث سنوات. فـ"الطريقة البوتينية" في إنهاء تمرد مسلح مجربة سابقاً في الشيشان، وهي طريقة "بسيطة" تتمثل في تدمير كل شيء بواسطة الصواريخ والطيران، بحيث يكون "النصر" مؤكداً مئة في المئة، طالما أن أحداً لا يتدخل لقص يد المعتدي. وهو ما سيكرره الجيش الروسي في المدن والبلدات السورية بهمة سفّاح مجرب طوال السنوات الثلاث الماضية.

"الطريقة البوتينية" في إنهاء تمرد مسلح مجربة سابقاً في الشيشان، وهي طريقة "بسيطة" تتمثل في تدمير كل شيء بواسطة الصواريخ والطيران

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير لها، الانتهاكات الروسية للقانون الدولي منذ بداية التدخل، وتضم قائمة هذه الانتهاكات ارتكاب مجازر بحق المدنيين، تضم دائماً عدداً كبيراً من الأطفال، كما من العاملين في الحقل الطبي الإسعافي والإعلاميين، واستخدام أسلحة وذخائر محرمة دولياً كالقنابل الفوسفورية والعنقودية والنابالم، واستهداف ممنهج لمراكز طبية ومدارس وأسواق شعبية غاصة بالمدنيين وقوافل مساعدات أممية. في غياب أي محاسبة لهذه الانتهاكات يصبح "النصر" مضموناً، كما ينتصر الإرهاب في كل عملية على دول بحالها، فيدفعها إلى – أو يبرر لها – اتخاذ تدابير أمنية متشددة تضرب الحياة الطبيعية للسكان، وتضيق على حقوقهم المدنية.

مع ذلك لم يكن التدخل الروسي مجرد نزهة قصيرة. بل احتاج منها الأمر ثلاث سنوات من العمل الإرهابي المتواصل، لم تخل من خسائر روسية أيضاً على رغم محدودية انتشارها البري. فقد بلغت الخسائر الروسية، وفقاً للأرقام الرسمية، مقتل 101 عسكرياً، و8 طائرات و7 طائرات مروحية. مع العلم أن رقم الخسائر البشرية لا يتضمن أعداد المرتزقة الروس الذين يعملون في شركات أمنية خاصة، إضافة إلى حقنا في التشكيك في الرقم 101 بذاته، بالنظر لطبيعة النظام الدكتاتوري لبوتين الذي هو أبعد ما يكون عن الشفافية في المعلومات. كل هذا ولم "تنجز المهمة" بعد، على رغم عدد المرات التي أعلن فيها الروس سحب "القسم الأساسي" من قواتهم من سوريا "لانتفاء الحاجة إليها"!

بلغت الخسائر الروسية، وفقاً للأرقام الرسمية، مقتل 101 عسكري، و8 طائرات و7 طائرات مروحية. مع العلم أن رقم الخسائر البشرية لا يتضمن أعداد المرتزقة الروس

بموازاة الهمجية العسكرية، نشطت الدبلوماسية الروسية على قاعدة إنتاج كم هائل من الأكاذيب لرد الاتهامات الدولية المتواترة حول انتهاكاتها، بحيث كان الكذب مجهوداً حربياً إضافياً قدم الذرائع المناسبة لتقاعس المجتمع الدولي عن وضع حد لمأساة السوريين. كما نشطت هذه الدبلوماسية على جبهة العلاقات مع الدول المعنية بالصراع في سوريا وعليها، فانفتحت على دول جديدة لم تكن على سلم اهتماماتها سابقاً كدول الخليج ومصر، ومتنت علاقاتها مع دول أخرى أهمها إسرائيل وإيران وتركيا، إضافة إلى شهر عسل طويل مع الأميركيين في عهد أوباما، إلى درجة أن الثنائي لافروف وكيري كانا، بين 2015 – 2016، بمثابة سايكس وبيكو الجديدين اللذين سيرسمان مصير سوريا والمنطقة المحيطة. ولولا تلك التفاهمات الروسية – الأميركية لما حلمت موسكو بالاستفراد بسوريا بكل هذه السهولة. ولم يأت انتقال السلطة في واشنطن من طاقم أوباما إلى طاقم ترامب بجديد نوعي في موضوع سوريا، إذا استثنينا الحملة الأميركية على إيران. فما زالت واشنطن مسلمة، في ظل إدارة ترامب، بالدور القيادي لروسيا في الصراع السوري. وحدوث بعض حالات التنافر بينهما، كضرب مواقع للنظام عقاباً له على استخدام السلاح الكيماوي، لا يلغي الخط العام لسياسة ترامب المتمثل بتسليم أمر سوريا لروسيا، وخاصة لجهة العمل العسكري الهادف إلى إنهاء المعارضة المسلحة بكل تلاوينها.

أما في المستوى السياسي فإن واشنطن وحلفاءها يدفعان نحو وضع بعض القيود على أهداف روسيا في سوريا من خلال التأكيد على مرجعية جنيف وقرار مجلس الأمن 2254 وربط إعادة الإعمار بشروط سياسية وإن كانت لا ترتقي إلى مستوى تغيير النظام أو ترحيل بشار الكيماوي.

الخط العام لسياسة ترامب المتمثل بتسليم أمر سوريا لروسيا، وخاصة لجهة العمل العسكري الهادف إلى إنهاء المعارضة المسلحة بكل تلاوينها

وسياسياً أيضاً تمكنت موسكو من اختراق أطر المعارضة السورية السياسية والمسلحة، سواء بدفعها إلى انقسامات ومشاحنات بينية، أو تدجين أقسام منها في مسارات آستانة وسوتشي، أو من خلال "المصالحات" على الطريقة الأسدية، أو بفرض عملاء لها على "الهيئة العليا للمفاوضات"، وصولاً إلى إفراغ مفهوم المعارضة من أي معنى غير المشاركة الذليلة في إعادة تأهيل النظام.

وفي علاقاتها مع إيران وتركيا، تمكنت موسكو، إلى الآن، من الحفاظ على "ثلاثي سوتشي" الضامن لمناطق خفض التصعيد والمسار السياسي الموازي، على رغم التباينات الكبيرة في أهداف كل واحدة من تلك الدول. هذا "الإنجاز" أيضاً لا يعود إلى براعة روسية مزعومة، بقدر ما يعود إلى "التفهم" الدولي، وبخاصة الأميركي للدور الروسي في سوريا.

فروسيا نفسها بلد هش يملك عضلات عسكرية منتفخة، بلا أساس اقتصادي أو قيمي، قادر على التدمير حين يسمح له أقوياء العالم بذلك

الخلاصة أن "الإنجاز" الروسي المتمثل في إعادة معظم الأراضي السورية إلى سيطرة النظام الكيماوي، وفي الاستفراد بتقرير مصير سوريا، هو إنجاز هش بجميع المعاني. فلا السيطرة الأسدية على ركام الخرائب السورية شبه الخالية من السكان يمكن اعتباره إنجازاً، ولا تقرير مصير سوريا سيكون بمعزل عن توافقات دولية ما زالت بعيدة المنال. فروسيا نفسها بلد هش يملك عضلات عسكرية منتفخة، بلا أساس اقتصادي أو قيمي، قادر على التدمير حين يسمح له أقوياء العالم بذلك، لكنه غير قادر على بناء دولة تابعة له، من الخراب. ربما كان إدراك هذا الواقع هو ما شجع بوتين على الموافقة على الهدنة المؤقتة بشأن إدلب، على أمل كسب بعض الوقت قبل أن تحين الاستحقاقات السياسية الكبيرة.