تهيَّؤوا للخيانة

2019.01.02 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنونْ

أيخون إنسانٌ بلادهْ؟

إن خان معنى أن يكون

فكيف يمكن أن يكونْ؟

بهذا التساؤل الخالد عبّر بدر شاكر السياب عن عجبه من هؤلاء الذين يبغون على إنسانيتهم ويبيعون أنفسهم والآخرين لقاء عَرَض قليل من الدنيا..

ولعل المشهد الآن يبدو أوسع وأقسى ما يكون على المسرح السوري، حيث يتشارك الأقرباء والغرباء دمنا ويتاجرون فيه في أسواق النخاسة، ويقامرون بمستقبلنا إذ يتنازعونه فيما بينهم، بعدما أمّنونا وقالوا: إنّا معكم مقاتلون!

وكأننا جثة من بعد ما أهمدوها، سلطوا عليها الجراد والقوارض لتُعمل فيها النهش والقرض، ليبقى الهيكل الخارجي الخشبي ماثلاً وكأنه وطن، بينما الداخل ممزق إلى أشلاء تنقلب على بعضها وتتقاتل من أجل البقاء، أي بقاء.

أولئك الذين خانوا إنسانيتهم ومواثيقهم ودمنا، حين عادوا إلى المجرم

أمدت الأردن النظام بأموال وبنين، من خلال إعادة فتح معبر نصيب، حيث تهافت فقراء الضمائر على شراء الغذاء السوري بثمن بخس، سارقين اللقمة من فم الجوعى

يستجدونه ويقيمون معه الصلات، يعكفون اليوم على توفير أدوات الخيانة، تشجيعاً للمترددين والمغامرين ومكابدي الشوق الكاذب.

فها هي "الهيئة العامة للطيران المدني" في دولة الإمارات تدرس استئناف الرحلات الجوية إلى دمشق، بعد إعادة فتح سفارة أبوظبي لدى نظام الأسد السفاح، وبالطبع فإن النتيجة لاتحتمل السلب والإيجاب، بل ستباشر تلك الخطوط رحلاتها إلى عاصمة القتل عما قليل.

وقبل "الشقيق" الإماراتي، أمدت الأردن النظام بأموال وبنين، من خلال إعادة فتح معبر نصيب، حيث تهافت فقراء الضمائر على شراء الغذاء السوري بثمن بخس، سارقين اللقمة من فم الجوعى، وفرحين بتوفير دراهم معدودة على حساب أطفال طوى الجوع بطونهم.

وكذلك فعل النظام العراقي، وسيتبعه بقية "الأشقاء"، الذين يبدو أمامهم إخوة يوسف غاية في النبل والرحمة، فأولئك ألقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة، أما هؤلاء فإنهم يشترون لحمه المطحون ويتاجرون به، ويمدون قاتله بكل أسباب القوة التي تمكّنه من الإجهاز على أية بذرة حرية تهدد بالنمو!.

أما نحن، فلسنا بُرَآء كذلك من تهمة الخيانة، حتى المعارضون منا.. فالذين هللوا لفتح معبر نصيب، قالوا لقد ارتحنا من تكاليف الرحلات الجوية الباهظة، وصار بإمكاننا السفر براً إلى سوريا، هؤلاء المقيمون في دول الخليج العربي، يقولون أيضاً: لم نعد نطيق مكابدة الشوق!.. ومعظمهم يردد: "أنا ما عليّ شي"، يقصد أنه ليس مداناً عند النظام بشيء، متناسياً أن هذه بحد ذاتها هي أقسى تهمة يمكن أن يُوصم بها، وأكبر عار.. أما العار الإنساني الذي يجلل هؤلاء بالخزي، فهو

الكل يعلم أن الخيانة جريمة وأن تسهيل الخيانة وتوفير أدواتها جريمة لا تقل بشاعة.

تلاشي شعورهم بمأساة ملايين الناس من أهليهم، قُتلوا وشُردوا وذُبّح رجالهم وأطفالهم واستُحيت نساؤهم..

هؤلاء الهاربون "منا" هم سلعة "المُطبّعين" الأغلى، وذريعتهم التي سيجابهون بها، سيقولون: لأجل السوريين المنهكين شوقاً إلى بلدهم وأهلهم فتحنا المعابر والمطارات، ولأجل رعاية مصالحهم أعدنا فتح سفاراتنا، والكل يعلم أن الخيانة جريمة وأن تسهيل الخيانة وتوفير أدواتها جريمة لا تقل بشاعة.

وخلاصة القول: لا أهمية ولا جدوى من فتح السفارات والمعابر وتشغيل الخطوط الجوية إن لم يكن ثمة عابرون ومسافرون، وإن سلاح المقاطعة يمكن أن يطال هؤلاء "المُطبعين" فيُفشل مشاريعهم ويقوّي مكانتنا، ومن لم يكن مطلوباً للنظام، فليعلم أنه مطلوب في محكمة الضمير، فإن لم يكن النظام قد قتل ابنك أو سبى امرأتك، فإنه قد قتل أطفال أهلك وسبى نساءهم، وهو يسعى اليوم لمصادرة مستقبلك، فأنت مجرد رقم انتخابي، كل وجودك مُختصر لديه بورقة تبصم عليها بالدم وتضعها في ميزان القاتل لترجح خطاياه.