تمسك دولي بالطريق الروسي المسدود

2019.07.31 | 23:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

دون تدخل يؤدي إلى تخفيض حالة عدم التوازن بين أطراف الصراع، ودون وضع روسيا ونظام الأسد في موقف الاستعصاء المؤلم، ودون إرساء الأساس الذي يمكن أن يخلق الظروف المناسبة لظهور تمثيل شرعي حقيقي للمعارضة تحصل فيه على كلتا الشرعيتين المحلية والدولية، فلن يكون هناك حل سياسي في سوريا. وحل عسكري يُنهي كل ملفات الأزمة السورية غير ممكن. عدا ذلك، لن يكون هناك إلا استمرار لصراع معقد طويل الأمد له بالتأكيد تداعياته على كامل المنطقة.

كعادتها، تقوم روسيا مع حليفها نظام الأسد بالتصعيد من القصف الذي تستهدف به المدنيين بالدرجة الأولى والمواقع الحيوية مع اقتراب موعد كل اجتماع بينها وبين الدول النافذة في الملف السوري تركيا وإيران.

تستعد العاصمة الكازخية نور سلطان "أستانا" سابقاً لعقد يومي الخميس والجمعة في الأول والثاني من آب اللقاء الثالث عشر ضمن سلسلة مباحثات أستانا تشارك فيه الدول الضامنة (تركيا، روسيا وإيران) وبعثة ممثلة عن نظام الأسد وبعثة عن المعارضة.

ويبدو أن مبعوث الأمم المتحدة غير بيدرسون يسعى إلى تدويل العملية السياسية بنسخة أستانا وإكمال تشكيل اللجنة الدستورية التي بدأت في المسار الروسي التركي الإيراني. فوفق آخر تصريحاته حول العملية السياسية في سوريا وفي مؤتمر صحفي تم عقده عقب جلسة مغلقة في مجلس الأمن حول سوريا في نيسان من العام الجاري. قال بيدرسون: "هناك تقدم فيما يتعلق بالقواعد الإجرائية، وعليه فإنه من الممكن التوصل إلى اتفاق". "الأطراف الدولية أظهرت توافقاً أبعد من المتوقع" كما قال، وأكد على أنه سوف يستخدم صلاحيات مكتبه ليساعد من له تأثير للانضمام محادثات جدية. "أؤمن بأننا نحرز تقدماً".

وكان غير بيدرسون قد عقد سلسلة مشاورات رسمية مع الضامنين في مسار

أفشلت روسيا كل قرارات مجلس الأمن بشأن سوريا، لقد وصلت الجهود في محادثات جنيف إلى طريق مسدود

أستانا والأطراف المعنية بالمسار آخرها كان لقاء مع وليد المعلم وزير خارجية نظام الأسد في دمشق هذا الشهر.
وتعني تصريحات بيدرسون المحاولة على الإبقاء على مسار سياسي تحت الإنعاش. مسار كان قد وصل أصلاً إلى طريق مسدود.

في حال استمر المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون بالبناء على نتائج مسار أستانا وسوتشي فإنه سوف يحول الفشل الثلاثي لكل من تركيا، روسيا وإيران في إيجاد حل سياسي في سوريا إلى فشل دولي جديد.

أفشلت روسيا كل قرارات مجلس الأمن بشأن سوريا، لقد وصلت الجهود في محادثات جنيف إلى طريق مسدود، ويرجع ذلك أساساً إلى تعنت روسيا ونظام الأسد ورفضهما لأي نتائج يمكن أن تؤدي إلى إزالة نظام الأسد أو تجريده من الشرعية. استمر تحالف (الأسد وروسيا وإيران) في استخدام القوة المفرطة تحت الغطاء السياسي لتحقيق المزيد من المكاسب العسكرية على الأرض. لم تبذل جهود دولية حقيقية لدفع الأسد وحلفائه للانخراط في حل سياسي بشكل حقيقي وفعال، أو لجعلهم يفقدون الأمل في تحقيق أهدافهم بالقوة العسكرية. خاصة مع تردد الحكومة الأمريكية في القضية السورية والخطوط الحمراء المعلنة التي تم عبورها دون أية عواقب لحقت ذلك.

في عرف تحليل وحلول الصراع، يتطلب التحرك باتجاه مفاوضات ناجحة تؤدي إلى حل سياسي أن تكون بيئة الصراع قد وصلت إلى لحظة النضج التي يمكن الوصول فيها إلى مفاوضات. تلك اللحظة تعرف في اللغة السياسية والدبلوماسية الاستعصاء المؤلم “hurting stalemate”. عندما يدرك كلا الطرفين أنهما لا يستطيعان تحقيق أهدافهما بمزيد من العنف وبأن الحرب خاسرة ولا يمكن كسبها إلا بكلفة غير مقبولة. استمرت انتهاكات الأسد وحلفائه في تغيير الخريطة على الأرض خلال محادثات جنيف وبعدها أستانا لصالح الأسد بكلفة هائلة من أرواح السوريين وأجسادهم. ولكن ثبت أن تلك الكلفة كانت وما تزال مقبولة من قبل المجتمع الدولي. اعتبر الأسد وحلفاؤه أن الامتناع عن الرد على جميع الانتهاكات هو بمثابة بطاقة ضمان لهم بأنهم يستطيعون تحقيق المزيد عسكرياً مع القدرة على فرض "حل" يلائمهم ضمن مسار سياسي بالقوة.

أرادت روسيا تحقيق مكاسب سياسية حتى ولو شكلية، من خلال تصميم مسار سياسي جديد للعمل كغطاء للتقدم العسكري على الأرض. نجحت روسيا في إقناع تركيا بالانضمام إليها لبدء محادثات أستانا. بعد سلسلة من الإخفاقات في جنيف، تنظر تركيا إلى النزاع السوري عند حدودها الجنوبية على أنه مكلف. بالإضافة لمخاوفها من تدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى تركيا. وتتخذ الحكومة التركية مؤخراً إجراءات صارمة تجري ترحيلاً قسرياً بحق المئات من اللاجئين على أراضيها إلى سوريا. تحولت إيران التي لم تكن موجودة في محادثات جنيف إلى ضامن في المسار الجديد.

 

تم العثور على مسار أستانا على خلفية اتفاقية منطقة خفض التصعيد في مايو/ أيار 2017. ساعد الاتفاق نظام الأسد في توسيع سيطرته على البلاد. حيث قام حلف الأسد بترجمة الاتفاقية إلى إنشاء منطقة تصعيد بدلاً من منطقة لخفض التصعيد. وباستخدام سياسة الأرض المحروقة والقتل الممنهج، الحصار والتجويع والإخلاء القسري، تمكن الأسد من الاستيلاء على مزيد من الرقعة الجغرافية.

وعدت روسيا في إطار مسار أستانا بإيجاد حل للوضع في سوريا، ليس عبر إظهارها أية مهارات دبلوماسية، ولكن على الطريقة الروسية لحل الأمور، كما في نموذج غروزني، والتي تفتخر بها روسيا. قبل أي اجتماع، أصبحت استراتيجيتهم تصعيد القصف على المدنيين من أجل انتزاع المزيد من الامتيازات على الطاولة.

وسط استمرار التقدم العسكري للحكومة السورية. سعت روسيا مع تركيا وإيران لتشكيل لجنة دستورية للمضي قدما في مسارها السياسي.

أرادت روسيا عبر إضافة منصات القاهرة وموسكو إلى الهيئة العليا للمفاوضات تشكيل معارضة تتناسب مع حجم مصالحها. الشكل الجديد الذي أصبح يعرف باسم "هيئة التفاوض السورية" لم يعد يلبي تطلعات الشعب السوري. ودخل الضامنون في أستانا مع هذه الهيئة في عملية تشكيل اللجنة الدستورية.

ما تقوم به روسيا ضمن المسار السياسي، هو اختزال العملية ضمن إجراءات شكلية، وممارسة تكنوقراطية لـ "قائمة جرد بالبنود" “Checklist”. هذا يتضح أيضاً

إن البناء على نتائج مسار روسيا وتركيا وإيران السياسي سوف يحوله إلى عملية سياسية جوفاء ومزيفة.

من تحديد أولويات المسار. حيث يستمر النقاش حول الدستور بينما تظل قضايا فوق دستورية عالقة ودون أفق لحلها. كيف يمكن اختزال القضية السورية في أزمة دستورية وتحويل وسائل الحل إلى إجراءات فنية تتعلق بصياغة دستور تشارك فيه وتنفذه ذات السلطات التي تقتل السوريين بالقصف وبالكيماوي وتقوم بتدمير مدنهم وقتلهم تحت التعذيب؟

إن البناء على نتائج مسار روسيا وتركيا وإيران السياسي سوف يحوله إلى عملية سياسية جوفاء ومزيفة.

تردي الوضع في إدلب الذي لم يكن أكثر سوءاً مما هو عليه الآن، أظهر كيف وصل مسار أستانا إلى طريق مسدود. حيث لم يعد هناك حسم عسكري على الطريقة الروسية ممكناً كما كان الحال في المناطق المحاصرة السابقة التي استولى عليها نظام الأسد، فإدلب تضم اليوم أكثر من 3 ملايين ونصف من السوريين معظمهم ممن هجروا من مناطق كانت محاصرة سابقاً وأصبحت اليوم تحت سلطة الأسد. مع تخوف تركي من تدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى الأراضي التركية، وانهيار حلم روسيا في السيطرة على ادلب عسكرياً وتقلصه إلى السيطرة، بعد معارك طاحنة، على قرية صغيرة لا تتجاوز العشرين بيتاً في تل ملح في ريف حماة الشمالي. كما أنه لا تتوافر الشروط المناسبة للانخراط في عملية سياسية حقيقية تفضي إلى حل سياسي. تعتقد روسيا أن الحل العسكري ممكن في ظل غياب آلية ردع حقيقية وفعالة لإجبارها على الالتزام بوقف إطلاق النار سواء من قبل المجتمع الدولي أو من قبل الضامن التركي. أما بالنسبة للمخاوف التركية والدولية بشأن تدفق مزيد من اللاجئين، فلم تترجم لأكثر من دعم محدود للفصائل العسكرية لقوى المعارضة على الأرض، ليس لتحقيق تقدم حقيقي وإنما لإرسال رسالة إلى روسيا لم تلتقطها تلك الأخيرة، مفادها بأن تكلفة الحل العسكري غير مقبولة. بالإضافة لانشغال تركيا بالتحضير لمعركة جديدة في شرق الفرات مُشيحة بنظرها عما يحدث في إدلب.

إن روسيا التي تبدو متعنتة لا ترغب بالتوصل إلى حل في سوريا، بل تريد فرض حلها الخاص وبالقوة العسكرية. يستمر القصف المكثف والمنهجي في ريفي إدلب وحماة على وجه الخصوص وفي ريف حلب بدرجة أقل، في حين خرجت تصريحات جير بيدرسون في الوقت نفسه حول استمرار الحل السياسي في شكل أستانا وحول الاقتراب من تشكيل لجنة دستورية.

إن إحداث تغيير حقيقي في المسار السياسي يتطلب المواجهة مع روسيا. ولا يمكن الحديث عن حل سياسي في الوقت القريب، وإنما العمل أولاً على تهيئة الطروف التي يتطلبها ذلك الحل.