تقسيم سوريا بالأحمر والأسود

2018.10.10 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مبكراً، والثورة السورية لمّا تكمل عامها الثاني، بدأ الحديث عن إمكانية واحتمالات تقسيم سوريا، ومع مرور الوقت وتعقد الصراع ودخول لاعبين خارجيين على الخط، زادت ثقة القائلين بالتقسيم، ورُسمت الخرائط الملونة التي استوحت عهد الدويلات السورية خلال الاستعمار الفرنسي، وبالمنطق التقسيمي ذاته: الطائفي – العرقي، مع تباين في عدد الكيانات التي تراوحت ما بين ثلاثة إلى خمسة.

وكان الحديث يبدو شبه طبيعي عن تقسيم بلد لم يعد فيه للصلح مطرح ولا لطرف غلبة على آخر،

في الوقت الذي تصدر فيه الأطراف جميعها شعارات تؤكد وتؤبّد وحدة سوريا، يتمترس كل طرف وراء حدوده الجديدة مستقوياً بداعمه الخارجي لتثبيت أرجله على قطعة أرض من الوطن

أما الغريب في القصة، فهو تلاشي تلك الأحاديث عند الاقتراب فعلياً من وقوع المحظور، وها نحن الآن أمام أسوار حقيقية تفصل ثلاثة كيانات، لا بخطوط ملونة، بل بلونين لا يمكن محوهما بيسرٍ أو في زمن قصير، لون الدم الأحمر ولون الحقد الأسود..

وفي الوقت الذي تصدر فيه الأطراف جميعها شعارات تؤكد وتؤبّد وحدة سوريا، يتمترس كل طرف وراء حدوده الجديدة مستقوياً بداعمه الخارجي لتثبيت أرجله على قطعة أرض من الوطن، ربما تغدو هي الوطن كله.. ومن وراء جدار يؤكد المستأسد على شعبه أنه سيعيد إلى "سيادته" منطقتي شرق الفرات وإدلب، وكذلك يفعل "محور الممانعة" الإيراني – الحزبلاتي- الروسي، بينما يُعدُّ الأكراد لحكم ذاتي طويل وحالم فيما وراء الفرات، مدججين بمطامع أمريكية وأوروبية في المنطقة، تلاقت مصالحهم، في الوقت الذي تلتقط إدلب – آخر الواصلين إلى خط النهاية- أنفاسها بعد ماراثون موت طويل، لتتشبث بحلم الحياة خلف المنطقة العازلة، والتي تعني الأمان والنجاة، أو هكذا أُريد لها أن تكون.

ومع استتباب القسمة وتواطؤ المقتسمين، يبدو أن كل طرف قد رضي بما في يده، على الأقل في الوقت الراهن، وإذ ينشغل السوريون بشعارات الوحدة وتنميقها وتصديرها عبر الأدبيات، تعرف روسيا أنها ضمنت "شرعياً" بقاءها في الساحل السوري لأكثر من سبعة عقود قادمة، وبالمقابل؛ وبما أن الولايات المتحدة وتركيا لم تتلقيا "دعوة" من نظام الأسد إلى الوليمة، فقد حرصتا على التأكيد أنهما لن تنهيا وجودهما العسكري في سوريا إلا بعد تحقيق الانتقال السياسي وإجراء انتخابات، وهو ما يمكن اللعب على تفاصيله لحد اكتساب الحدود المؤقتة صفة الدائمة أو شبه الدائمة، بل ربما تصبح نتائج الانتخابات نفسها، أياً كانت، حاجزاً أعلى من كل الجدران، وسبباً أدعى من كل الأسباب للتقوقع ونبذ الآخر حتى النهاية.

ومن نافلة القول إن الترسيم الذي بات ناجزاً بعد اتفاق إدلب، وقسم البلد إلى مشروع ثلاث دويلات، محميٌّ ليس بمصالح الدول المستفيدة وحسب، بل بإرادات ومخاوف السكان المحليين،

نضال السوريين أفشل مشاريع الدويلات التي فرضها المستعمر الفرنسي، لكنْ صحيح أيضاً أنهم ظلوا منقسمين – إلى حد كبير- طائفياً وعرقياً كما كشفت الحالة السورية الراهنة

الذين نجحت مشاريع تقسيمهم طائفياً وعرقياً، وفي وسائل التواصل الاجتماعي دليل لمن أراد سبر الهوّة واستجلاء أعماقها، فالناس يبشرون بعضهم بالذبح والبراميل المتفجرة، ولا يقبلون عن الإبادة بديلا، ما يجعل الخطوط الفاصلة والمناطق العازلة منجىً لكل الأطراف، يحتمون بها ويرون فيها أمانهم الذي غاب في ظل الدولة الموحدة.

وعلى الرغم من مرارة هذا السيناريو وقسوته، إلا أنه ليس حتمياً بكل تأكيد، وإن كان مدعوماً بجيوش غازية ونفوس عافت الحرب والخسارات، كما أن مقاومته وتغييره لا تكون بالشعارات والنوايا الطيبة، فصحيح أن نضال السوريين أفشل مشاريع الدويلات التي فرضها المستعمر الفرنسي، لكنْ صحيح أيضاً أنهم ظلوا منقسمين – إلى حد كبير- طائفياً وعرقياً كما كشفت الحالة السورية الراهنة، ما يعني أن الحلول السياسية لا تحقق الأمن المستدام ولا التطمينات الكافية لانخراط المكونات في مجتمع واحد.. إلا أن القانون يحقق ما تعجز عنه السياسة، فالعدالة الانتقالية، التي غاب الحديث عنها، وكذلك إنشاء محكمة خاصة بجرائم الحرب في سوريا، والتواضع على عقد اجتماعي يحمي الحقوق ويساوي فعلياً بين المواطنين على اختلاف أديانهم وطوائفهم وأعراقهم، ربما يقنع السوريين بالتخلي عن خنادقهم العتيقة التي لا يمكن البناء عليها لمستقبل أبنائهم..

وطالما أنه ليس في سوريا قانون يحمي السوريين، كلَّ السوريين، سيظل كلٌّ منهم يرفع الأسوار ويحتمي بطائفته وأبناء عرقه ومحتله الذي ارتدى هيئة المخلّص!.