تعب المشوار... النشيد الوطني للساحل السوري

2019.04.15 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان فؤاد غازي أول مطرب حمل ما سمّي باللون «الجبلي» إلى سياق الأغنية السورية، ولا سيما بعدما اعتُمد رسمياً مغنياً في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. قبله كان إبراهيم صقر قد وجد طريقه إلى الإذاعة فقط، وتقريباً عبر برنامج وحيد ومتجهم وهامشي هو «صوت القوات المسلحة»، عندما كان العساكر يروّحون عن فراغهم وكسل أيامهم بطلب بعض أغانيه ومواويله، مما منحه بجدارة لقب «مطرب الجيش».

على خلاف صقر، صف الضابط من ريف جبلة العلوي، جاء غازي من بيئة شعرية وغنائية شعبية، تنتمي إلى الطائفة نفسها، في قرية فقرو التابعة لسهول محافظة حماة. نشأ فؤاد في أجواء العتابا ومحاوراتها التي شارك فيها باكراً وأثبت جدارة بصوته القوي الذي قاده إلى العاصمة، حيث نال شهرة كبيرة من خلال عدد من الأغاني التي راجت خلال عقد الثمانينات، أبرزها «تعب المشوار» التي يستعيدها الآن كثيرون.

تبدأ الأغنية بالقول: «تعب المشوار، من خطواتي وخطواتَك، تعب المشوار/ ونسينا الدار، والزوار نسيناهم، جنّي يا دار/ على وين الدرب مودّينا؟ وعلى أيّ شط مرسّينا؟/ يا بحر اتركنا ع المينا، وخلينا صغار، خلينا صغار».

كما هي حال المعجبين بأي مطرب، يقول بعض المغرمين بغازي إن هذه الأغنية «خالدة». غير أن آخرين في الساحل يستعيدونها اليوم دون خلفية من هذا الشغف العام، بل لأنها «سبقت عصرها» كما يقولون.

«تعب المشوار» وحدها تستطيع المنافسة في كل الحلبات

في البيئة العلوية أثناء الثورة، تحتل ثلاثة أنماط رئيسية من الغناء فضاء السمع؛ الأول هو أغاني العشق والغزل وأحوالهما، كما في أي بيئة، والثاني هو الأغاني «الوطنية» المخصصة لتمجيد القائد وجيشه، والثالث هو أغاني الرثاء والألم والتفجّع الذي يصاحب جنازات العائدين من هذا الجيش وقواته الرديفة. تتناوب هذه الأنماط على الصدارة حسب الحالة، وتتزاحم أغاني كل نمط على التقدّم على سواها من النمط نفسه، غير أن «تعب المشوار» وحدها تستطيع المنافسة في كل الحلبات. إذ يمكن أن تتناغم، بالدرجة نفسها، مع صفنات المتة وتمايل العرَق وأسى القهوة المرّة. فهي، في الأصل، أغنية «عاطفية» تخوض في بحر العتاب الذي لا ينتهي بين المحبين؛ كما أنها أغنية «فراقية» حزينة؛ وأخيراً فإن وصفها الضبابي لتيه «الدار» التي «جنّت» صار يبدو أكثر تعبيراً عن حال البلاد من الأغاني الحماسية التي صاحبت السنوات الأولى للجّة «الأزمة» التي لم تنته رغم القتل، تاركة الطائفة في حالة انعدام رؤية لمصيرها، لا تعرف أين سيؤدي بها الدرب، ولا كيف سترسى بها الأحوال. ولذلك فهي تحنّ، تحت وطأة الشعور بالإحباط والخذلان وتعقّد المستقبل، إلى ماضٍ طفوليٍّ متخيَّلٍ يتركها «ع المينا» ويتناسى كل مغامرتها الوحشية.

لا تقول المقاطع التالية من الأغنية شيئاً أبعد. فهي تتقدّم فقط في الشعرية التي ستبدو، بالقياس إلى الكلمات المباشرة الأولى، مجرّد سياحة في التيه وظيفتها أن تعود بالمترنم إلى اللازمة «تعب المشوار»، دون أن تنسى المرور على «سنين العمر الضايع» الذي سينتهي بجملة ناحبة «وحدك يا دنيا رح تبقي/ ونحن زوار».

رغم أنها أغنيته الأبقى والأحب إلى قلبه، إلى درجة أنه تمنّى على سواه من المطربين عدم أدائها بعده، إلا أن الأغنية التي أطلقت فؤاد غازي بداية كانت «لزرعلك بستان ورود». وقد كتبها، في أواخر السبعينات، حسان يوسف، من قرية عوينة الريحان التابعة للقرداحة، وكان ضابطاً متطوعاً في «سرايا الدفاع»، الجيش التابع للقائد القوي رفعت الأسد. كانت «بستان ورود» من مزاج مختلف تماماً، طافحة بالتفاؤل والحيوية. ومن أقدَرُ من ضابط في السرايا، في ذلك الوقت، ليَعِد محبوبته بمعجزات من نوع أن يغزل لها سواراً من نور الشمس، أو يأتيها بأحلى درّة من أبعد بحر، أو نجمة من حول البدر، أو يعمّر لها بالعالي قصر. أو، على الأقل، بيتاً في المزة 86!!

وقد أضاف اللحن الهازج الذي وضعه «الأستاذ» عبد الفتاح سكر للأغنية الكثير من شعبيتها وقابليتها للغناء في الملاهي والحفلات وبثها في برامج المنوعات. كان سكر واحداً من ملحنين دمشقيين في التلفزيون قامت عليهم «الأغنية السورية»، ممن سيلتقطون الموهوبين وأنصافهم، فقراء قادمين من المحافظات، ويسلكون بهم سلم المجد. ستتقلب الأيام كثيراً بالمطربين الشبان، ستعشيهم الأضواء التي لم يألفوها والأموال التي لم يسبق أن رأوا بقدرها والنساء والسهر، وستكون لبعضهم نهايات دراماتيكية، فيما سيكبر كتّاب النوطة في العمر والرصيد، وسيستقر وصف الواحد منهم على المايسترو أو الموسيقار.

في 1983، بعد عام من مجزرة حماة وتأديب سورية، سيمدّ «أستاذ» آخر يده أبعد من اللحن فيكتب كلمات «صف الفشك». سيدّعي سهيل عرفة أنه أضاع الفشك (الرصاص) لكن الأمور ستمر بسلام. لن يتهمه أحد بهدر الذخيرة أو بيعها للمسلحين، وستكون الأغنية من نصيب غازي الذي سيعترف لحبيبته، في العام التالي: «جردتيني من سلاحي» عندما يغني «جدّولاتك مجنونة».

في الطريق إلى قمة مشواره، وتعبه وبدء انحداره معاً، سيطلق غازي أغنية «وطنية» بلحن عسكري هي «زفّوا العساكر للمجد» التي تفتخر: «نحن روينا ترابنا/ بالدم ومنروي بعد»، وهو ما قالته الطائفة لبشار بحماس أخذ يتناقص بالتدريج كلما كثر أبناؤها الذين غنّت لهم «ما ودّعوني».

في السبعينات كان غازي، ملك العتابا كما يسمّيه محبوه، قد أدى موالاً للأسد الأب، عندما كان الأخير يكنّى باسم جده، خاطبه فيه: «يا حافظ يا أسد يا بوسليمان/ الشعب والجيش في عهدك سَليمان». ولكن ما العمل الآن ولم يعد أي من هذين سليماً؟ الجيش الذي اهترأ بفعل الانشقاق والتهرّب وسنوات الحرب الطويلة وتداخله مع الميلشيات، والشعب المتبقي الذي بات ينتظر الكهرباء والمحروقات لساعات... ووحده «صبر أيوب» ما يمكّنهم من تحمّل كل هذا!