تركيا تصارع حليفين لها في سوريا

2019.08.26 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تصارع تركيا، في سوريا، حليفين دوليين، في وقت واحد: روسيا في الشمال الغربي حيث منطقة "خفض التصعيد" في محافظة إدلب وريف حماة الشمالي، والولايات المتحدة في شرقي نهر الفرات. شهدت الجبهة الأولى تقدماً كبيراً لقوات "النظام" بمشاركة روسية حاسمة، ليس فقط بسلاح الطيران كالمعتاد، بل كذلك بزج قوات برية تابعة لها، إضافة إلى مشاركة محدودة للميليشيات الإيرانية، فاستولت على بلدة خان شيخون ومناطق مجاورة، على طريق السيطرة على طريق حلب – حماة ذي الأهمية الاستراتيجية، عسكرياً وتجارياً.

بالمقابل، توصلت تركيا إلى تفاهم أولي مع الولايات المتحدة على إنشاء منطقة آمنة على قسم من حدودها الجنوبية، بطول 100 كم، وعمق 5 – 14 كم، للفصل بين حدودها ومناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، وبدأ التنفيذ حيث أزالت "القوات" المذكورة قسماً من التحصينات والخنادق من النطاق (أ) ذي العمق 5 كم، كما نص اتفاق أنقرة، "كبادرة حسن نية" وفقاً لتصريح الناطق باسم القوات الأميركية، وتم تسيير أول طلعة جوية مختلطة أميركية – تركية فوق المنطقة.

ويقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى موسكو، في السابع والعشرين من شهر آب الجاري، للتباحث حول تطورات الحرب

السوخوي الروسية كانت دقيقة جداً في استهدافها، فدمرت سيارة، وسط القافلة التركية، كانت تقل 3 مقاتلين من "فيلق الشام" المحمي من تركيا، ولم تصب الآليات التركية بأي أذى

في منطقة "خفض التصعيد" بعدما فشلت المباحثات بين الجانبين في وقف تقدم قوات النظام ووقف القصف الجوي على مختلف مدن محافظة إدلب، الأمر الذي أدى إلى موجة نزوح كبيرة باتجاه الحدود التركية.

تصريحات المسؤولين الروس بشأن مواصلة ضرب "الإرهابيين" في إدلب، تصاعدت على وقع التفاهم التركي – الأميركي، وبلغ الأمر بالطيران الروسي أن قصف رتلاً عسكرياً تركياً كان متجهاً نحو منطقة خان شيخون قبل سيطرة ميليشيات النظام عليها، تعبيراً صريحاً عن الاستياء الروسي من احتمال تقارب مستجد بين أنقرة وواشنطن. لكن السوخوي الروسية كانت دقيقة جداً في استهدافها، فدمرت سيارة، وسط القافلة التركية، كانت تقل 3 مقاتلين من "فيلق الشام" المحمي من تركيا، ولم تصب الآليات التركية بأي أذى.

الرسالة الروسية الموجهة لتركيا من هذه الغارة واضحة جداً: قواتك في نقاط المراقبة المنتشرة في منطقة خفض التصعيد هي في أمان، لكن "الإرهابيين" الذين تحميهم هم في عين الاستهداف. لقد فشلتِ في الوفاء بالتزاماتك في اتفاق سوتشي (أيلول 2018)، دعنا إذن نقوم بالمهمة بنفسنا.

لكن "الأمان" الروسي الممنوح للقوات التركية لا يشمل الحفاظ على هيبة تركيا، فرسالة السوخوي تقول، ضمناً، إن تركيا غير قادرة على حماية حلفائها السوريين، الأمر الذي من المفترض أن ينعكس سلباً لدى الفصائل المسلحة والقوى السياسية التي وضعت كل بيضها في السلة التركية، من غير أن نذكر شعبية القيادة التركية لدى المجتمعات المحلية في تلك المناطق، تلك الشعبية الآخذة بالتآكل منذ تسليم حلب الشرقية، أواخر العام 2016، وبسبب انتهاكات الفصائل التابعة لتركيا في منطقة "درع الفرات"، والآن بسبب عجز أنقرة عن حماية أحد في إدلب، مدنيين أو فصائل تابعة لها.

نقطة المراقبة التركية في مورك، شمال حماة، حوصرت بالكامل من قبل ميليشيات النظام. لكنها ستكون في أمان، الأمر الذي يزيد من مهانة الوضع بالنسبة لتركيا. فهل ينجح أردوغان، غداً، في إقناع الرئيس الروسي بمخرج مشرف لهذا الوضع، سواء فيما يتعلق بنقطة المراقبة المذكورة أو بالحصول على فترة سماح جديدة لترتيب أمور المنطقة بما يحفظ ماء الوجه؟

الواقع أن أي "ترتيب" لهذه المنطقة، بالتوافق مع روسيا، سيكون خسارة كاملة لتركيا. ذلك أن المطلوب منها هو تحقيق الأهداف الروسية بغير قتال. وهدف روسيا معلن: إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام. أي أن على الأتراك أن يسلموا، في نهاية المطاف، مناطق انتشار نقاط مراقبتهم لقوات النظام، ثم ينسحبوا! وهكذا يمكن القول، بعيداً عن نظريات المؤامرة والصفقات المزعومة تحت الطاولة، الشائعة اليوم لدى المعارضين السوريين، إن إشراك تركيا بضمان منطقة خفض التصعيد في إدلب وجوارها كان، بحد ذاته، توريطاً روسياً لا يمكن لتركيا أن تخرج منها بلا خسائر.

ترى هل الوعي المتأخر لدى القيادة التركية بهذه الحقيقة هو ما دفع أردوغان إلى البحث عن تفاهمات مع واشنطن بشأن شرقي نهر الفرات، وجعله يوافق على اتفاق دون طموحه، يمكن قراءته بصورة معكوسة من حيث أن الهدف منه حماية قوات سوريا الديموقراطية من الخطر التركي، وليس حماية تركيا من الخطر الكردي؟

أم أن تدهور شعبية السلطة في الداخل التركي هي ما دفعت الرئيس إلى العودة إلى حليفه الأطلسي

التفاهمات بين الأخير وكل من الحليفين اللدودين تكون دائماً تكتيكية، مؤقتة، مشروطة بظروفها، هشة وقابلة للارتكاس

بعد طول توتر؟ ذلك أن التاريخ القريب لتركيا يقول إن الرضى الأميركي أمر لا غنى عنه بالنسبة لأي طامح في اعتلاء السلطة، أو الاحتفاظ بها، في أنقرة. وما كان لحزب العدالة والتنمية أن يفوز بالسلطة، منذ العام 2002، لولا تشجيع واشنطن لمؤسسيه.

أم أن ما دفع أردوغان إلى الموافقة على الاتفاق هو اعتباره ثمناً مقابل صفقة الصواريخ الروسية التي أثارت استياء واشنطن؟

الواقع أن جميع العوامل المذكورة لعبت دوراً في المرونة التركية التي أنتجت الاتفاق وأبعدت المجازفة بغزو تركي أحادي لا بد أن يؤدي إلى صدام مباشر مع القوات الأميركية.

سواء تعلق الأمر بموسكو أو واشنطن في علاقات أنقرة التحالفية - الصراعية معهما، نلاحظ أن التفاهمات بين الأخير وكل من الحليفين اللدودين تكون دائماً تكتيكية، مؤقتة، مشروطة بظروفها، هشة وقابلة للارتكاس، فضلاً عن العلاقة الشرطية العكسية بين أي تفاهم أو صراع على خط أنقرة – موسكو وأي تفاهم أو صراع على خط أنقرة – واشنطن. التقارب هنا يؤدي إلى صراع هناك، والاحتدام هنا ينعكس استرخاء هناك.

ما الذي تريده تركيا في سوريا؟

على المدى القريب تريد تركيا الحفاظ على مناطق نفوذها الحالية، وتوسيعها إن أمكن لها ذلك، لتبقى صاحبة كلمة في أي حل سياسي للصراع في سوريا، وفرض منطقة عازلة بينها وبين القرى والمدن الكردية على طول حدودها كمكسب مسبق قبل الدخول في أي مفاوضات مع الأطراف الأخرى.

وتريد، على المدى المتوسط، أن تكون شريكاً في رسم مصير سوريا ما بعد الحرب: وحدة الأراضي السورية كضمانة لعدم قيام أي وضع قانوني خاص بالمناطق الكردية. وهو هدف يلتقي فيه الأتراك مع النظام الكيماوي، كما مع "المعارضة العربية" في سوريا، مما يسهل اعتماده في أي حل سياسي مفترض.

أما على المدى البعيد، وفي حال استمرار الصراع سنوات إضافية وعدم توافق القوى الدولية المنخرطة في الصراع، وبخاصة روسيا والولايات المتحدة، على تسوية سياسية بغطاء أممي، فسيكون بمقدور أنقرة تحويل سيطرتها على منطقتي "درع الفرات" وعفرين إلى إلحاق نهائي، أو شبه إلحاق، بالأراضي التركية، بموازاة تغيير ديموغرافي من طريق طرد كرد تلك المناطق وإحلال اللاجئين السوريين في تركيا محلهم.

ولكن بين ما تريده تركيا والممكنات هوة كبيرة أهم عناصرها ضعفها أمام حليفيها اللدودين.