"ترجمان الأشواق" مسلسل في أصول العهر والنفاق

2019.06.10 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما كتب الشيخ الأكبر "محي الدين بن العربي" ديوانه الشهير "ترجمان الأشواق"، مستلهماً اشتياقه إلى "نظام بنت أبي شجاع الأصفهاني" في ملحمة عشق وصدق صوفية، مازالت محط اهتمام الكثيرين وبحثهم ودراستهم، ما كان يتخيل أن يأتي أحد ما؛ ليستعير عنوان ديوانه وبعض طقوس الصوفية؛ لينتج واحدة من أردأ محاولات النفاق والكذب الصفيق.

إنه مسلسل "ترجمان الأشواق"، الذي كتب السيناريو له "بشار عباس"، وأخرجه "محمد عبد العزيز"، وهو المسلسل الذي يحكي عن مصائر ثلاثة من اليساريين السوريين (مثّل أدوارهم: عباس النوري، وفايز قزق، وغسان مسعود) تشاركوا الحلم والسجن في زمن ما، ثم افترقوا. وقد التقوا بعد عشرين عاماً في دمشق، دمشق المدينة التي يُستباح اليوم كل ما فيها...

إن هذا الجيش ذاته، هذا الجيش السوري الذي دمر ما يقارب مليون منزل سوري، قد تم تصويره في مسلسل "ترجمان الأشواق"، على أنه جيش الأنبياء في نبله ووطنيته وحرصه على الوطن

لن أتناول هنا رؤية المسلسل، ولا الكيفية التي نظر فيها إلى اليسار ومعالجته لها، من خلال تناول مصائر هؤلاء اليساريين الثلاثة، (وإن كنت أمتلك حقاً أكبر في تناول هذا الجانب؛ فأنا جزء من هذا اليسار الذي قصده المسلسل، وحياتي تتقاطع إلى حد كبير مع تفاصيل أظهرها العمل؛ ليدل إلى من يقصد)، ولن أتحدث عن الافتراء الصفيق، ولا عن اختزال تلك التجربة إلى هذه الصورة المشوهة، التي تشكل إساءة بالغة لتجربة قد تحتاج إلى مقاربة أكثر نضجاً ووعياً ومسؤولية، لكنني سأترك هذا لوقت آخر، وسأتناول هنا ما يخص سوريا، يوميات سوريا، وتحديداً في هذه الفترة المفصلية من تاريخها.

لا يتسع المجال هنا للكلام الكثير الذي يجب أن يقال، عند الحديث عن تعمد طمس جريمة العصر التي ترتكب بحق سوريا وشعبها؛ لذا إن كل ما سأقوله هنا، ما هو إلّا بعض ذاك الكلام، أو بعض القهر الذي يجتاحني، أو يجتاحك وأنت ترى لحّاس أحذية يخطف السكين من يد القاتل؛ لكي يضعها في يد الضحية الغارقة في دمها؛ ليقول: إن الضحية ضحية نفسها، إنها هي من قتلت نفسها.

ولكي يبدو هذا مقبولاً، لابد من ديكور مناسب:

1 -فالجيش "السوري" الذي لم يكن قد انتهى الشهر الأول من انفجار المظاهرات في درعا، حتى صدم السوريون بمنظر دباباته وهي تغادر ثكناتها أول مرة في مهمة قتالية، وتوجه فوهات مدافعها إلى بيوتهم وإلى أولادهم الذين يتظاهرون. وسيتذكر السوريون طويلاً، وربما لأجيال وعصور، هذه الكارثة الوطنية. ومنذ ذلك اليوم وحتى اللحظة لم يتوقف هذا الجيش عن استباحة السوريين وقتلهم وسرقة بيوتهم.

إن هذا الجيش ذاته، هذا الجيش السوري الذي دمر ما يقارب مليون منزل سوري، قد تم تصويره في مسلسل "ترجمان الأشواق"، على أنه جيش الأنبياء في نبله ووطنيته وحرصه على الوطن؛ ففي تفاصيل المسلسل يظهر أفراده وهم يفترشون الأرض، وهم يلتحفون السماء، وهم يأكلون بضع حبات من الزيتون والبطاطا المسلوقة فقط، كي يدافعوا عن وطنهم الذي اجتاحه الإرهاب.

2-وأجهزة المخابرات السورية التي لا أدري إن كان بالإمكان أن يختلف سوريان حول طبيعتها! فهذه الأجهزة يعرفها السوريون جيداً، ويعرفون كمَّ البشاعة فيها، ويعرفون أن سوريا تكاد لا تخلو من بيت لم يعش ظلماً وعسفاً مما مارسته هذه الأجهزة بحق فرد فيه على الأقل. ومع هذا، فقد أظهرها هذا المسلسل على نحو آخر، فهي قاسية بعض الشيء، لكنها القسوة التي تتطلبها حماية البلاد والعباد. ولقد ظهر أحد ضباطها مثقفاً ومتقشفاً ومتفانياً وزاهداً، وكأن ملايين السوريين الذين تذوقوا طعم الإهانة في أقبية هذه الأجهزة، أو كأن عشرات الآلاف من السوريين الذين عذبوا حتى الموت فيها، ما هم إلا مجرد كذبة، وكأن مئات آلاف المعتقلين والمختفين الذين تُفتت أجسادهم الآن في عتماتها، ما هم إلا خيال اخترعه أعداء الوطن، أو جزء من المؤامرة الكونية على سلطة هذه البلاد.

3-ثم الوطن، وسيادته، الذي لم يتجرأ هذا المسلسل – ولا غيره من الأعمال التي أنجزت في سوريا– على الإشارة ولو تلميحاً، إلى الاحتلالات العسكرية لعاصمة سوريا "دمشق" أو لغيرها من مدن الجغرافية سوريا وبلداتها وقراها؛ فليس من الأهمية بشيء أن تنتشر قواعد عسكرية لجيوش غير سورية في الأراضي السورية، ولا أهمية لأن تستبيح ميليشيات طائفية إيرانية عاصمة بلادهم، ولا قيمة ولا معنى لرمزية "اللطم" في سوق الحميدية، أو داخل المسجد الأموي، وليس الوقت الآن لأن نشير ولو تلميحاً إلى مئات الغارات الإسرائيلية التي استباحت سماء دمشق وأرض دمشق؛ فأصبحت حدثاً مألوفاً يعايشه السوريون. بينما تصبح قضية قطع المياه عن دمشق، التي افتعلها النظام ليبرر هجومه على منطقة وادي بردى، حدثاً بالغ الأهمية.

قبل أن ينفجر الغضب السوري في آذار 2011، كنا سوريين ونسكت عن طمس حقائق كثيرة في الثقافة والفن والإعلام، وكنا نصمت عن الكذب في كل شي

-4أما عن السوريين المقهورين الذين تبخروا من دمشق الملاهي الليلية، دمشق السهر والرقص، دمشق التي فيها متسع؛ لكي يطير حمام الدهشة، ولكي تعيد المدينة سيرة ليلها وزخم الحياة فيه، دمشق التي هي دمشق 2017 كما يراها جهابذة هذا المسلسل. نعم، هناك بعض الأزمات العابرة، فقد ينقطع التيار الكهربائي بضع ساعات فقط، وقد تنقطع المياه بعض الوقت فقط، وقد ترتفع الأسعار... الخ فقط. لكن كل هذا عادي في حياة السوريين، ويعرفونه منذ نعومة أظفارهم. ولا شأن للمسلسلين بالحديث عن عشرات آلاف المشردين الذين ينامون في الحدائق المهجورة، وعلى أرصفة الشوارع، ولا بالحديث عن أطفال التسول، وعن الفتيات اللواتي امتهن الدعارة هربًا من الجوع والقهر، ولا عن مئات تفاصيل الموت والقهر، فهذا لا أهمية له، ولا معنى لكل هذا الحزن الذي يغلف هذه المدينة المأساة، لذلك لم يكن حضوره مهماً في أي تفصيل من تفاصيل هذا العمل التلفزيوني.

لا أدري، من أين تأتي هذه الشجاعة للكذب، كل هذا الكذب الصفيق، ولا كيف يمكن لبعضهم أن يغيروا حتى الوقائع التي ما تزال تجري أمام أعين العالم كله، ولا كيف يمكن ألا يخجل من يتنكر لكل هذا الدم المسفوح، ولكل هذه المأساة التي يتجرعها السوريون كل لحظة.

قبل أن ينفجر الغضب السوري في آذار 2011، كنا سوريين ونسكت عن طمس حقائق كثيرة في الثقافة والفن والإعلام، وكنا نصمت عن الكذب في كل شيء: من رغيف الخبز، حتى استباحة رجال المخابرات لجامعاتنا ولمحاكمنا ومساجدنا وبيوتنا. كنا نصمت، وكان صمتنا مراً، لكننا كنا نصمت، وكنا نبرر صمتنا؛ إذ نقول -وكنا مخطئين-: لا يزال ما لا نريد خسارته. أما اليوم، وبعد أن دمرت البلاد، وتقاطر المحتلون إليها، واستبيحت، وانتهكت كرامتها، وسكنها القهر والموت والتشرد، فهل يمكن الصمت عن كل هذا الكذب الوقح، وعن كل هذا التزوير ...؟

كنا سابقاً نتواطأ على فجيعتنا، ونعد أيامنا على أصابع أمل قادم، أما اليوم فلم يعد لهذا التواطؤ، وبعد كل ما جرى، إلا تسمية واحدة: الخيانة.

لم يعد مقبولاً قول جزء من الحقيقة، وطمس ما تبقى منها بحجة الرقابة والقمع والسجن، ولم يعد مبرراً، فإما أن نقول الحقيقة عارية، كما هي، أو فلنصمت؛ فلم يعد ثمن قول جزء من الحقيقة بعض القهر المضاف، لقد أصبح ثمنه دماً، ووطناً يُدفع إلى الهاوية، وشعباً يُساق إلى الإبادة.