ترامب الذي يستثمر الأعداء قبل الحلفاء

2018.12.27 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا تختلف سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن سياسة سلفه باراك أوباما من الناحية الاستراتيجية. الفارق بين الرجلين، هو اللغة المستخدمة والمواقف السياسية التي تتخذ على القطعة. لا يجد ترامب ضيراً في تقديمه نموذجاً للرئيس الغريب الأطوار، صاحب العقل التجاري أو المقاول. ولذلك فإن كل المصطلحات السياسية التي يستخدمها، تتخذ طابع الفجاجة، وترتكز على منطق الثمن الواجب دفعه من قبل حلفاء واشنطن لقاء القرارات التي تتخذ وتصبّ في صالحهم. وعلى هذا الأساس اتخذ ترامب قرار الدخول إلى سوريا ونشر قوات أميركية في شرق البلاد وعلى الحدود السورية العراقية، بناء على ضغوط ومطالب خليجية.

اتخذ الانتشار الأميركي هناك شعار تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، والتمهيد لإخراج حلفاء إيران من الأراضي السورية، بالإضافة إلى منع طهران

الانسحاب الأميركي سيعيد الحرارة للعلاقات بين واشنطن وأنقرة، وتكون تركيا قد حققت هدفاً استراتيجياً في ضرب الأكراد ومنعهم من إقامة كيان ذاتي في سوريا

من تأمين الخط الاستراتيجي البرّي الذي يربطها بالبحر الأبيض المتوسط، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. لكن شيئاً من هذه الطروحات لم يتحقق، لا بل ازداد النفوذ الإيراني في سوريا بالارتكاز على التسيّد الروسي في الملف السوري سياسياً وعسكرياً. وكما كان قرار الدخول الأميركي يخدم وجهة النظر الخليجية في يوم من الأيام، وقد دفع ثمنه مئات المليارات. فإن قرار الانسحاب يخدم وجهتي النظر الروسية والتركية.

الانسحاب الأميركي سيعيد الحرارة للعلاقات بين واشنطن وأنقرة، وتكون تركيا قد حققت هدفاً استراتيجياً في ضرب الأكراد ومنعهم من إقامة كيان ذاتي في سوريا، وتكون قد حققت التسلّم الكامل للملف السوري. بينما الغموض يبقى يغلّف حقيقة الموقف الإيراني ووضع طهران في سوريا، التي بلا شك أصيبت بارتباك معين، حول تداعيات هذه الخطوة الأميركية وكيف ستنعكس عليها. لكن بلا شك أن طهران تمسك بالعديد من أوراق القوة بيدها، ومن غير المعروف إذا ما كانت ستضطر لاستخدامها. أولها سيطرتها الجغرافية على مناطق واسعة وأساسية في سوريا، وثانيها استمرار قواتها العسكرية وحلفائها بنشاطهم وانتشارهم على مساحات متعددة. وثالثها حاجة الروس إليها على الأرض وفي السيطرة الميدانية، وثالثها إنشاء العديد من التنظيمات المسلحّة السورية إلى جانب الاستحصال على الجنسية السورية لمقاتلين لبنانيين، أفغان، وإيرانيين، سيكونون أحصنتها في حال حصول أي تطور عسكري، أو في مرحلة الحلّ السياسي المقبل.

قد يكون الانسحاب الأميركي من سوريا، هادفاً إلى تحضير مشهد الأحداث لمرحلة جديدة. وهذا ما يراهن عليه خصوم طهران، إذ يعتبرون أن واشنطن تنسحب في سبيل نقل المواجهة إلى شكل جديد قد يتخذ طابعاً أكثر تصعيداً على الصعيد العسكري، ويربطون القرار بتشديد العقوبات الأميركية على إيران وبالضغوط التي تمارس على حزب الله في لبنان وتحديداً ملف الأنفاق.

منطق الأحداث يشير إلى أنه لا يمكن الرهان على الأميركيين، الذين تلتقي مصالحهم إلى حدّ بعيد مع المصالح الإيرانية، أو على الأقل يعتبرون

واشنطن تبدو منكفئة في انسحابها من سوريا، لكن! في الجوهر هو وقوف المخرج خلف ستار المسرح، بما يتيح القدرة على إدارة المسرح بتحكم عبر خيوط، تحرك الممثلين كما يشتهي المخرج

أن ما حققته إيران في سوريا، من تمزيق لجغرافيتها ودمغرافيتها، وتهجير الأكثرية منها، أمر يخدم مصالحهم الاستراتيجية إلى جانب الإسرائيليين، وبالتالي لن يكون هناك حاجة بالنسبة إليهم إلى ضرب إيران أو تحجيم دورها. بل هي ضرورة تبقى لابتزاز خصومها وحلفاء واشنطن، الذين سيبقون بحاجة إلى الحماية الأميركية والسلاح الأميركي من شراهة البعبع الإيراني.

واشنطن تبدو منكفئة في انسحابها من سوريا، لكن! في الجوهر هو وقوف المخرج خلف ستار المسرح، بما يتيح القدرة على إدارة المسرح بتحكم عبر خيوط، تحرك الممثلين كما يشتهي المخرج الجالس على مقعده بطمأنينة وثقة.

القرار الذي اتخذه دونالد ترامب، وقبله باراك أوباما في الانسحاب من المنطقة، يمثّل رأياً عميقاً في واشنطن، يعبّر عن تجلياته في عموم الشعب الأميركي الذي يتوق إلى اهتمام أميركا بأميركا وليس بالخارج. هذا من الناحية الشعبية، أما من الناحية السياسية، فإن الدولة العميقة في واشنطن، بمختلف انتماءاتها الديمقراطية أو الجمهورية، تقرأ في كتاب رؤية استراتيجية للمفكر الأميركي من أصل روسي زبيغنيو بريجينكسي، والتي تدعو واشنطن إلى التنسيق والتكامل مع روسيا، والانسحاب من الشرق الأوسط، وتوحيد الجهود الروسية الأميركية باتجاه المحيط الهادئ ومواجهة المدّ الصيني المتوسع.

على الأرجح أن يكون قرار الانسحاب الأميركي من شرق سوريا مبنيا على تفاهم بين واشنطن وموسكو، يرتكز على تسليم سوريا إلى روسيا، بالتكافل والتضامن مع الأتراك. وهذا واقع ستجيد طهران قراءته بشكل جيّد، وتحيك من تفاصيله الجديدة، خطّة جديدة للتكيف مع الواقع وتأمين استمراريتها في سوريا، خاصة أن الانسحاب الأميركي سيؤسس لإعادة تفعيل الدور لثلاثي آستانة، أي موسكو وأنقرة وطهران. وللحديث حول هذا الثلاثي صلة.