تدهور شعبية أردوغان السورية والعربية

2019.09.02 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حادثة حرق صورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من قبل الجموع التي احتشدت عند معبر باب الهوى، يوم الجمعة 30 من آب الماضي، هي سابقة تستحق التوقف عندها لمراجعة شعبيته السورية والعربية في السنوات السابقة.

فقد كان التدخل التركي النشط في الصراع السوري، منذ العام 2011، محل ترحيب البيئة الاجتماعية للثورة السورية، مقابل عدم ارتياح كردي ورد فعل عدائي لدى جمهور نظام بشار الكيماوي. وكانت تصريحات أردوغان النارية ضد النظام تثلج قلوب الثائرين عليه وتشعرهم أن لهم في تركيا سنداً موثوقاً، بخاصة لكون الموقف التركي متناغماً مع مواقف الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين ودول الخليج العربية. كما أن سياسة الحدود المفتوحة التي اتخذتها تركيا، في السنوات الأولى، أتاحت ملاذاً آمناً للنازحين الفارين من جحيم طيران الأسد وبراميله المتفجرة، بل إن المقارنة بين تركيا ودول الجوار الأخرى، في معاملة اللاجئين، كانت دائماً لمصلحة الأولى.

بيد أن شعبية أردوغان لدى جمهور عربي واسع هي أسبق من شعبيته السورية المخصوصة. فقد كانت الاستدارة التركية نحو الجوار العربي – الإسلامي، بعد قطيعة أتاتوركية مديدة، في إطار سياسة "تصفير المشكلات" و"العمق الاستراتيجي" لصاحبها رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، قد لاقت استحساناً شعبياً واسعاً رغم قيام السياسة التركية – آنذاك – على تمتين العلاقات مع الأنظمة القائمة، وبخاصة نظام بشار الأسد في سوريا. ففي زمن ما قبل ثورات الربيع العربي لم يكن هناك تمايز بين الموقفين الرسمي والشعبي في العلاقة مع الجارة تركيا، تماماً كشعبية حزب الله وحسن نصر الله في سوريا نظاماً وشعباً.

حادثتان مهمتان ارتقت بشعبية أردوغان إلى الذروة عربياً: الأولى هي تنمره على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في منتدى دافوس (2009)، حين قال له إن إسرائيل بارعة في قتل الأطفال الفلسطينيين؛ والثانية حين اتجهت سفينة الإغاثة التركية "مافي مرمرة" إلى شاطئ غزة المحاصرة، في ربيع العام 2010، حيث واجهتها قوات الكوماندوس الإسرائيلية بقتل عشرة من ركابها الأتراك. ويمكن إضافة موقف ثالث، أسبق زمنياً منهما، هو قرار البرلمان التركي بعدم السماح للقوات الأميركية بالانطلاق من الأراضي التركية لغزو العراق في العام 2003.

مع اندلاع الثورات حسمت تركيا الأردوغانية خياراتها فقررت الاستثمار في المستقبل، ظناً أن النظام السوري سيسقط خلال بضعة أشهر، كحال الأنظمة في تونس ومصر وليبيا، وأن القوى البديلة لتلك الأنظمة هي قوى إسلامية (إخوانية) تتصدر المشهد المعارض، لتكون تلك الدول بقياداتها الجديدة "الصديقة" مجال نفوذ تجاري وثقافي لتركيا في المستقبل القريب.

من نافل القول إن شعبية أردوغان السورية التي دخلت طور التراجع، منذ العام 2013 وصاعداً، بسبب انكشاف عجز تركيا عن مواجهة

شعبية تركيا أردوغان لدى البيئة الثورية السورية انحدرت، بصورة حادة، بعد تسليم حلب الشرقية مقابل غض نظر روسيا عن التوغل التركي في منطقة "درع الفرات"

النظام حين تخلت عنها إدارة أوباما، حافظت على سويتها لدى البيئة الإسلامية السورية التي مارست التحالف مع تركيا بشكل تبعي، على صورة تبعية أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية للنظام الأسدي. فكان أن ظهر تعبير "منحبكجية أردوغان" الذين يبررون كل السياسات التركية، ليس فقط تلك المتعلقة بسوريا، بل كذلك سياساتها الداخلية.

لكن شعبية تركيا أردوغان لدى البيئة الثورية السورية انحدرت، بصورة حادة، بعد تسليم حلب الشرقية مقابل غض نظر روسيا عن التوغل التركي في منطقة "درع الفرات"، ودخول تركيا في مسار أستانة الثلاثي مع الشريكين الروسي والإيراني حليفي نظام الأسد. ذلك المسار الذي أدى إلى استعادة النظام لمعظم المناطق التي كانت خارج سيطرته إلى ذلك الحين. ولم ينعكس هذا الانحدار في شعبية تركيا الأردوغانية على موقف الائتلاف المعارض الذي يهيمن عليه الإسلاميون، بل العكس هو ما حدث: فقد دفعت تركيا بالائتلاف إلى المشاركة في مؤتمر سوتشي (للحوار السوري – السوري) ليتحول إلى مجرد ناطق باسم السياسة التركية في الصراع السوري، وباتت التبعية لتركيا صفة عامة تجمع أعضاء الائتلاف، سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين أو كرداً. غني عن القول إن تدهور شعبية تركيا لدى البيئات الثورية تطابق مع تدهور أكبر لـ "شعبية" الائتلاف المعارض، إذا كان من الممكن الحديث عن شعبية له أصلاً.

المحطة ما قبل الأخيرة في هذا المسار كانت في تلك الإجراءات القاسية التي طبقت بحق اللاجئين السوريين في إسطنبول، حين أخذت الشرطة التركية تقوم باصطيادهم وطرد قسم منهم إلى ما وراء الحدود. هذا الحدث الذي فقد معه سوريو تركيا، وإسطنبول بصورة خاصة، الشعور بالأمان، أخرج الغيظ المكتوم، في حينه، إلى العلن لدى البيئة الثورية السورية، بمن فيهم نشطاء كثيرون واظبوا، طوال سنوات، على الدفاع عن السياسة التركية. إلا الائتلاف المعارض الذي سجل، في تلك المناسبة، سقوطاً أخلاقياً توّج تبعيته السياسية لتركيا.

أما المحطة الأخيرة فهي زيارة أردوغان إلى موسكو، بعد سقوط خان شيخون في يد قوات النظام. فقد اعتبرت تركيا التي لديها نقاط

خيبة الأمل لدى السوريين من الدور التركي هي نتاج تحميلهم لتركيا ما لا قدرة لها عليه، في ظل توازنات القوة القائمة في سوريا، كما في ظل تحول السياسة التركية

مراقبة عسكرية في "منطقة خفض التصعيد" في إدلب وجوارها، مسؤولة عن ذلك السقوط. وكان مشهد الرئيس التركي في معرض الطيران، برفقة الرئيس الروسي بوتين، يتناولان المثلجات، بمثابة استفزاز لمشاعر السوريين الغاضبين من تطورات الحرب في إدلب، فكان أن تم إحراق صورة أردوغان، عند معبر باب الهوى، بعد سنوات من التغني بمزاياه وأفضاله على الثورة السورية وإيوائه لملايين اللاجئين.

الحق أن تقدم قوات النظام في المنطقة، وبخاصة سيطرته على خان شيخون وبلدات مجاورة، هما نتيجة منطقية لمسار الأحداث منذ سقوط حلب الشرقية، إن لم نقل منذ التدخل الروسي في أيلول 2015. خيبة الأمل لدى السوريين من الدور التركي هي نتاج تحميلهم لتركيا ما لا قدرة لها عليه، في ظل توازنات القوة القائمة في سوريا، كما في ظل تحول السياسة التركية، منذ سنوات، من أجندة إسقاط النظام إلى أجندة إسقاط احتمال قيام كيان كردي في الشمال السوري. هذا الهدف الأخير كان يتطابق مع ميول كثير من السوريين المعارضين، فيجعلهم يغضون النظر عن الجوانب الأخرى للسياسة التركية في سوريا. أما وقد بلغت الأمور سقوط بلدات ريف حماة الشمالي ومحافظة إدلب في يد النظام، وأعلنت الحكومة التركية نيتها بإعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى الداخل السوري، فقد كان مشهد تناول البوظة في موسكو كافياً لإشعال الفتيل.

من شأن إحراق صورة أردوغان أن تعزز نزعة الكراهية ضد السوريين، في بيئة حزب العدالة والتنمية هذه المرة، إضافة إلى البيئات العلمانية المعارضة. ولا فائدة سياسية يمكن كسبها من هذا العمل الغاضب، ليكون بالإمكان تبريره. من الأفضل الاستفادة من درس العلاقة مع تركيا التي مرت بتعرجات كثيرة، ومفاده أن العلاقات التحالفية ليست "ثوابت" أبدية، وهي لا تستوجب التبعية العمياء.