بين العقوبات على الأسد وقمة وارسو.. إنذارات أميركية بالجملة

2019.01.25 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

جاء الموقف الأميركي الذي تضمنه مشروع قانون قيصر لافتا لناحية الإعلان عن مساع أميركية لحماية الأشخاص والمؤسسات التي تهتم بجمع معلومات حول جرائم النظام يمكن استعمالها في سياق محاكمات دولية، وكذلك لناحية تشديده على فرض عقوبات تطال أي شخص أو مؤسسة ترتبط بالإعمار ومشاريع الهندسة المتصلة بالنظام السوري.

يتزامن هذا الموقف الأميركي مع التحضيرات الواسعة لإطلاق مؤتمر وارسو الذي حشدت له واشنطن أكثر من سبعين دولة، والذي يقام تحت عنوان مواجهة الخطر الإيراني.

أدت العقوبات الأميركية على إعادة الإعمار إلى إعادة النظر في عناوين الانفتاح العربي والخليجي على النظام السوري، والتي كان عنوانها الأبرز

تلعب أميركا على وتر هذا الصراع لإعادة إنتاج عناوين سياستها التي تعمّق ما كان الرئيس الأميركي السابق أوباما يفكر به، ولكن بطريقة ترامبية

استخدام هذا الانفتاح كسلاح لمواجهة إيران ونفوذها، ولكن المسارات المتلاحقة بينت أن الأمر ليس محصورا في هذا الاتجاه، بل ربما يكون عنوان مواجهة إيران تفصيلا بارزا في سياق صراع إقليمي ينمو بوتيرة متصاعدة يتضمن مواجهة سعودية إماراتية مع تركيا وقطر.

تلعب أميركا على وتر هذا الصراع لإعادة إنتاج عناوين سياستها التي تعمّق ما كان الرئيس الأميركي السابق أوباما يفكر به، ولكن بطريقة ترامبية إذا صح التعبير، حيث يجب إدامة الصراعات وتأجيجها بين الجميع، وخلق شبكة واسعة من تضارب المصالح مع منع الانفجار التام.

ولعل جل النشاط الأميركي في المنطقة الذي يتجلى في مشروع قانون قيصر وفي قمة وارسو وسواها يؤدي هذه الوظيفة، فالنظام السوري ليس الطرف الصانع للقرارات فيما يخص إعادة الإعمار، لذا فإن تصميم قانون عقوبات على من يتعامل معه إنما يهدف إلى الضغط على روسيا والصين، وكذلك على دول الخليج وتركيا وأوروبا في الآن نفسه.

يعلم الجميع أن الشركات الكبرى المؤهلة لإعادة الإعمار هي الشركات الصينية والأميركية، وتأتي بعدها الشركات الأوروبية، ويرجح أن تكون الشركات الروسية في أسفل قائمة الشركات المؤهلة لإنجاز هذه المهمة، كما أنها لا يمكن أن تنجز إلا في حال تم الإفراج عن التمويل الخليجي.

الرسائل التي توجهها أميركا من هذه العقوبات على التعامل مع النظام السوري تهدف الى أن تفرض على جميع الدول المرتبطة بالمسألة السورية تقديم أوراق اعتمادها لديها، كي يصار لاحقا إلى توزيع الأدوار والوظائف التي ترتبط بدور استراتيجي أميركي يتخذ من الميدان السوري وتعقيداته مدخلا لترتيب النفوذ الأميركي في العالم في مواجهة الصين وروسيا وأوروبا من ناحية، وترتيب شؤون الأزمات التي يعاني منها الرئيس الأميركي ترامب في الداخل.

تفترض هذه الاستراتيجية منع ظهور أي تيار مهيمن بالكامل على القرار في سوريا والملفات المرتبطة بها، فبعد أن كانت الأمور ذاهبة في اتجاه تسليم أميركي بإمساك روسيا بمفاصل القرار في سوريا، تبين أن لا وجود لمثل هذا النوع من التفكير في الذهنية الأميركية، بل إن ما تنتجه إدارة ترامب لا يعدو كونه سياسة إنتاج المآزق واغراء الجميع بالغرق فيها، وتدبير الاستثمارات في قلب المعمة بكلفة شبه صفرية، تحرص إدارة ترامب على التفاخر بها وإبرازها في كل مفصل.

هكذا ترتسم ملامح الرسائل الأميركية في كل اتجاه، فالقمة المعدة ضد إيران التي سُبقت بضربات إسرئيلية شديدة على مواقعها في سوريا، حولت الحضور الإيراني في سوريا إلى مأزق يمنع إيران من الاستفادة من وجودها الميداني الذي لا ينكر في سوريا، ومنعتها من استثماره في أي سياق تفاوضي، وكذلك فإن حصول الضربات بتوافق إسرائيلي روسي وإثر تنسيق متزايد بينهما يجعل أي ردة فعل إيرانية مغامرة انتحارية.

يعني ذلك أن الوجود في الميدان السوري لم يعد عنوانا للنفوذ، بل ربما تسعى أميركا إلى إلغاء هذا المفهوم واستبداله بصيغة الدور. الفرق بين المفهومين شاسعة وكبير فالنفوذ يعني الاستدامة والثبات في حين أن الدور يعني صيغة من التحولات الدائمة والمتسارعة.

يلخص هذا المنطق سياسة أميركا الحالية والتي يرجح أنها ستمثل عصب التفكير الأميركي في كل الفترة المقبلة. تتجلى انعكاساته في أكثر من ميدان، فبعد أن أوحت للجميع أن انسحابها المزعوم من سوريا يعني إطلاق يد تركيا فيما يخص حلفائها الأكراد، تحول الأمر إلى عملية ضبط للنزاع بين تركيا والأكراد، تحت عنوان قديم جديد هو محاربة إرهاب عاود ظهوره، بعد أن تم الإعلان عن القضاء عليه، في توقيت إستراتيجي مناسب ليصيب مجموعة من الجنود الأميركيين وعناصر كردية حليفة لهم، متيحا الفرصة لإحياء عنوان محاربة داعش.

عودة داعش تتيح إعادة ترتيب الأولويات بشكل لا يمكن فيه لحلم الدولة الكردية أن يرى النور، وكذلك الأمر فيما يخص قيام منظقة نفوذ تركية ثابتة وواضحة المعالم، بل تتجه الأمور نحو ضرورة قيام حلف الضرورة بين تركيا والأكراد لمحاربة الإرهاب الداعشي، وهو عنوان عملت أميركا منذ ما قبل ترامب على تصميمه كمصدر لإنتاج الشرعيات، بحيث لا يمكن لأحد أن يغامر بالخروج عليه دون أن يصبح محل استهداف بالعقوبات وغيرها.

تركب أميركا سياسة ترهيب دولية تجعل الجميع مجرد مياومين عندها إذا صح التعبير، فالإفراج عن مشروع إعمار سوريا ،في السياق الذي تركبه، من شأنه أن يقلص ربحية جميع المشاركين فيه إلى الحدود الدنيا التي تفرض عليهم دفع أثمان مادية وسياسية مقابل السماح بمنحهم دورا فيه.

السياسة نفسها تطبقها في التعامل مع إيران فليس حشد أكثر من سبعين دولة لمواجهة الخطر الإيراني

تعمد إيران في ظل كل هذه التحولات المتسارعة إلى رفع عنوان  كاريكاتوري هو الافراج عن الحكومة اللبنانية كمدخل لتحريك ملفات حضورها ودورها في المنطقة

سوى تأكيد على النظرة الأميركية حول خطر إيران الدولي والكوني، والذي يتطلب من دول العالم التوافق على مواجهته وتأمين الموارد اللازمة لذلك، بينما تقتصر مهمة أميركا على توجيه تلك الموارد في إطارها الصحيح.

تعمد إيران في ظل كل هذه التحولات المتسارعة إلى رفع عنوان  كاريكاتوري هو الافراج عن الحكومة اللبنانية كمدخل لتحريك ملفات حضورها ودورها في المنطقة، ويسارع الافرقاء اللبنانيون إلى تلقف هذه الأجواء للدخول في التركيبة الحكومية التي تريدها إيران عنوانا لنفوذها الذي يضم حضور النظام السوري، ويؤمن له المداخل اللازمة للتحايل على شبكة العقوبات من قلب النظام المالي والمصرفي اللبناني.

يهدد هذا السياق الحكومي في حال إنجازه بالقضاء التام على الشرعية اللبنانية التي ستكون محاصرة بالعقوبات من كل الجوانب، والتي تستهدف هذه المرة بشكل خاص القطاع الذي يقوم عليه الاقتصاد اللبناني، أي القطاع المصرفي.

لا يشك أحد أن إيران وحزب الله يعلمان تماما ما الذي يعنيه حاليا تشكيل حكومة إيرانية أسدية في لبنان، ما يرجح أن يكون ما يشاع عن إفراج قريب عن الحكومة اللبنانية قد يكون ممكنا ،في حال كانت هذه الصيغة تعني عكس ما يجب أن تعنيه، أي أنها تشكل مدخلا لنهاية شرعية النظام اللبناني والقضاء عليه.

لا يبدو هذا السيناريو مثار قلق لأحد فلقد تحول الشأن اللبناني في ظل مشهدية تمكين النفوذ الأميركي في العالم إلى شؤون أصغر من صغيرة.