بوتين - ترمب.. مستثمران متقاهران

2019.02.22 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الوقت الذي لم يفلح فيه بوتين حتى الآن، أن يستثمر  - سياسياً واقتصادياً – منجزاته العسكرية في سوريا، يسارع ترامب – إبان انعقاد مؤتمر وارسو 14 – 15 شباط الجاري – إلى الإعلان عن اقتراب فوز الولايات المتحدة الأمريكية بتحقيق ما كانت تسعى إليه في سوريا، ويعني بذلك اقتراب الإجهاز على تنظيم داعش في سوريا. ولو شاء ترامب ان يستخدم لغة التصريح لقال لبوتين: لقد أتحْنا لكم الاستفراد – عسكرياً – بالملف السوري منذ أيلول 2015 ، كما لم نشأ تكذيبكم حينما عزوتم تدخلكم آنذاك إلى محاربة الإرهاب، ونعلم أنه لم يكن بوارد أجندتكم سوى مؤازرة نظام الأسد الذي كان يوشك على التقهقر آنذاك، لإنقاذه من التهالك والسقوط ، ونعلم أن من أولوياتكم – حينها -  مقاتلة مَن يقاتل نظام الأسد، والابتعاد عن محاربة الحركات الجهادية الإرهابية، وبالفعل تم لكم ما أردتم، إذْ  تمكنتم من تدمير وقتل وتهجير معظم الحواضن المناهضة لنظام الأسد ( حمص – درعا – الغوطة – حلب الشرقية )، كما استطعتم بفضل تفاهماتكم الإقليمية والدولية، احتواء معظم الفصائل العسكرية، واستدراج قاداتها مع مجموعة من الشخصيات السياسية في المعارضة السورية، إلى أستانا في بداية العام 2017 .

وقد نجحتم في أن يكون نتاج لقاءاتكم معهم خلال عامين هو تمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على معظم المدن والبلدات التي كانت خارج سيطرته، كما كنتم بارعين – يا صديقي بوتين – في تعطيل كافة القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية من خلال ممارستكم لحق النقض ( الفيتو) في مجلس الأمن، الامر الذي أتاح لكم هندسةَ حل سياسي يناسب حليفكم بشار الأسد، إذ يسهم في إبقائه في السلطة، ويبرئه مما اقترفه من جرائم بحق السوريين، وها أنتم يا صديقي بوتين – يضيف ترامب – تختزلون القضية السورية – بمساعدة شركائكم الأتراك والإيرانيين – بتشكيل لجنة دستورية تهدف إلى إصلاح دستور 2012 ، علماً أن نظام الأسد ما زال رافضاً لها. لقد انكفأت أمريكا يا سيد بوتين، عن المشاركة الفعلية في مسار أستانا، وانحصر حضورها لمعظم اللقاءات بصفة مراقب فحسب، ولم نشأ الانهماك أكثر من ذلك، ليقيننا بعدم إنجاز أية طبخة تفاوضية دون مباركتنا لنتائجها.

عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وبلداتهم، وإعادة الإعمار( الحلم الروسي المنظور للاستثمار)، هما مسألتان مقرونتان بإيجاد حل سياسي

وعلى الرغم من مجهودكم العسكري والسياسي منذ عام 2015 وحتى الآن، فإن شعبكم في روسيا الاتحادية مازال ينتظر غلال حربكم التي تخوضونها في سوريا ضدّ السوريين، وكذلك مازال معظم الشعب الروسي ينتظر كم سيجني من الاستثمار الاقتصادي لحربكم التي توشك على استنزاف اقتصادكم الذي يئن من وطأة العقوبات الأمريكية والأوروبية، فكم سينتظر هذا الشعب المسكين، وكم سيصبر عليكم؟

عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وبلداتهم، وإعادة الإعمار( الحلم الروسي المنظور للاستثمار)، هما مسألتان مقرونتان بإيجاد حل سياسي لا يمكن أن يرى النور دون أن تباركه الولايات المتحدة، التي تضع يدها على الثلث الأغنى من الأرض السورية، فامض إلى ما أنت فيه – يا صديقي بوتين – سيبقى مسعاك في سورية منقوصاً، وستبقى خيوط أحلامك بأيدي أمريكا إلى أن تُفرج عنها.

ما هو مؤكد، أن الشماتة الأمريكية بالإخفاق الروسي الراهن في سوريا، لا تنطوي على نوازع قيمية لدى الأمريكان، بقدر ما تنطوي على تفوّق أمريكي في الاستثمار لا يقل قذارةً عن النزوع البوتيني. ذلك أن واشنطن، ومنذ الإعلان عن صفقة الكيمياوي بين بوتين وأوباما في صيف 2013 ، باتت واضحةً اكثر من أي وقت مضى، بأن ما يجري في سورية لا يعنيها إلّا بقدر انعكاسه أو تأثيره على ( الداخل الأمريكي)، وما يمكن استثماره من شعارات أمام مراكز القوى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فكان شعار ( الحرب على الإرهاب) هو الأكثر جاذبيةً، فضلاً عن كونه الأكثر قابليةً للاستثمار. ولم يكن اختيار واشنطن لحزب الاتحاد الديمقراطي( pyd ) كحليف محلّي، اختياراً مجانياً، إذ ما يجمع بين الطرفين معاً، هو النأي عن القضية الوطنية للسوريين، والاستفادة من حالة صراع المصالح الدولية على الأرض السورية، وباتت قوات سوريا الديمقراطية التي تشكلت في تشرين أول 2015 ،هي الحليف المختار أمريكياً لمواجهة الإرهاب في سوريا، أي محاربة تنظيم داعش.

ثمة مسألتان تمكن الإشارة إليهما بإيجاز شديد:

الأولى: لم يعد تنظيم داعش في سوريا عدواً مُستَهدفاً بحدّ ذاته، بقدر ما تحوّل إلى ( جوكر) في لعبة الحرب، والصراع على مناطق النفوذ، ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أن معظم الأطراف الإقليمية والدولية التي تحارب داعش الآن، سبق لها وأنْ هادنتْه حيناً، وتبادلت معه المصالح حيناً آخر، وكذلك سهّلتْ له التموضع في الأماكن التي تريد الوصول إليها. وكما غضّت واشنطن الطرف عن أرتال داعش التي كانت تنقل العتاد الثقيل والهائل من مدينة الموصل العراقية التي احتلها التنظيم في حزيران 2014 ، إلى مدينة الرقة التي كان قد احتلها التنظيم في تشرين أول عام 2013 ، علماً أن المسافة بين المدينتين تقارب ( 400 كم)، كذلك كان داعش العصا الطّيّعة بيد نظام الأسد، حين نقلهم من مخيم اليرموك وحي الحجر الأسود في ريف دمشق، إلى شرقي السويداء،ليضع أهالي مدينة السويداء أمام خيارين، إما أن أترككم لداعش تفتك بكم، وإما الرضوخ بتجنيد أبنائكم في صفوف ميليشيات النظام من أجل القتال ضد أهلهم السوريين.

لم يعد تنظيم داعش في سوريا عدواً مُستَهدفاً بحدّ ذاته، بقدر ما تحوّل إلى ( جوكر) في لعبة الحرب، والصراع على مناطق النفوذ

الثانية: لم تكن الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في قتال داعش قائمة على مبدأ ( استئصال تنظيم داعش) بقدر ما كانت قائمة على مبدأ ( حيازة الأرض)، وكان من عواقب هذه الاستراتيجية نسبة كبيرة من القتلى في صفوف المدنيين، فضلاً عن الدمار الهائل في المدن والبلدات التي كانت مسرحاً للمواجهات، ففي مدينة منبج على سبيل المثال، أسفرت المواجهة بين قوات التحالف وداعش في آب 2016، عن سقوط ( 800 ) ضحية من المدنيين، في حين لم يُقتل من تنظيم داعش العشرات، و كذلك في مدينة الرقة التي كانت معقل الخلافة، وكان يتموضع فيها اكثر من ( 15000 ) مقاتل من داعش، ولم نر حين تم الإعلان عن طرد التنظيم من الرقة سوى الدمار الهائل والمقابر الجماعية للمدنيين، والضحايا الذين تحت الأنقاض جراء قصف التحالف، أما عناصر الأعداد الهائلة لعناصر التنظيم، فإنهم سرعان ما يتبخرون، لا أحد يرى منهم أحياء أو أمواتاً. وتجدر الإشارة – في هذا السياق – إلى أن معظم المعارك المفصلية التي دارت بين التحالف الدولي وداعش، كانت تنتهي بصفقة، أو صفقات، يُتاح من خلالها لأعداد كبيرة من التنظيم بالانتقال إلى بلدات ومدن أخرى.

تقترب حكومة ترامب من الإعلان عن انتصارها على تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، وبالتأكيد سوف تعدّ ذلك منجزاً عظيماً أمام الرأي العام وخاصة الأمريكي، وبمقدور ترامب أيضاً أن يؤكد للعالم بأن جميع المدن والبلدات التي كان يسيطر عليها داعش باتت تحت سلطته وسلطة حلفائه (قسد)، ولكن ما ليس بمقدوره أبداً، ولا بمقدور حلفائه، أن يفصحوا عن عشرات الآلاف من الدواعش الذين أخلوا أماكنهم القتالية، ولكنهم لم يغادروا الأرض السورية.

بكل تأكيد، إن النأي الأمريكي عما فعله، وما يزال يفعله نظام الأسد بحق السوريين، ما هو إلّا شكل من أشكال الانحياز للإرهاب الذي بات وجوده ضرورياً، باعتباره أحد مصادر الاستثمار الكبرى في السياسة الأمريكية، إلّا أن الأهم – بالنسبة إلى واشنطن – التأكيد لبوتين بأن نجاح استثماراته على الأرض السورية حتى الآن، مازال مرهوناً بالمشيئة الأمريكية، و ما يجعل هذه المشيئة أكثر عطفاً وليونةً، حيال موسكو، ليس محصوراً بسورية فقط، بل هو خارجها أيضاً.