بسام غراوي... أبعد من الشوكولا الفاخرة

2018.05.07 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

«كان يملك من الأخلاق ما يكفي كي لا يؤيد النظام، ومن العقل ما يكفي كي لا يعاديه»، هكذا عبّر أحد أصدقاء رجل الأعمال الدمشقي الراحل مؤخراً. أما السيدة التي عرفته منذ وقت طويل فرأت أن تصنيفه كموالٍ أو معارض غير دقيق، وأن الموقع المناسب له ربما كان «المتذمّر».

في حين يفصح يعرب بدر، وزير النقل الأسبق في حكومة النظام، والذي يحتفظ للفقيد بمودة وتقدير شخصيين، أكثر حين يقول: «أخطأ البوصلة في توجيه موقفه في السنين الأخيرة بعد 2011، وكلنا يعلم من هو السفير الغربي الذي ضلل المرحوم بسام غراوي في بدايات الأزمة وملأ مخيلته بالأوهام».

تتململ مجموعة من الحقائق خلف الصورة التي أراد الكثيرون الاكتفاء بتقديمها عن الرجل، باختصاره في مجرد «قصة نجاح سورية» أطاحت بها «الحرب». واجهة أنيقة كأناقة غراوي نفسه أو فروع شركته المنتشرة في بلدان مختلفة، غير أن سر مهنة العائلة مخبأٌ في المطبخ. وهو السر الذي رفض بسام، أن يبيعه لشركة نستله، كما رفض أن يعلّق علناً على ما يجري في بلاده متذرعاً: «السياسة ليست مجالي». غير أنه، هو، كان مجالها في الحقيقة.

في دمشق، المولعة بالتاريخ، لم يرد ذكر عائلة غراوي قبل أن يؤسس جدها المعروف أحمد معملاً لصناعة السكاكر والفواكه المجففة، في سوق مدحت باشا، عام 1805. وبعد جيلين كانت هذه الصناعة قد وسمت العائلة وتفرعت على ورشات في البزورية لأسرها المنفصلة والمتنافسة على الاسم الذي احتل موقع علامة تجارية، ولا سيما مع توسع الإنتاج الذي وجد طريقه إلى المدن السورية الأخرى وإلى فلسطين ولبنان والأردن.

كان صادق، والد أحمد بسام، أبرز من أنجبته العائلة. وهو أول من أدخل صناعة الشوكولا إلى سورية، عام 1928، بالإضافة إلى تأسيس شركات صناعية وتجارية مختلفة، كان من شركائه فيها شكري القوتلي، قبل أن يصبح أول رئيس للبلاد إثر الاستقلال، ورئيس الوزراء الشهير خالد العظم. وكما كان الحال وقتها، لم يقتصر الأمر على الأعمال، فقد كان صادق من أبرز الأعيان المحسوبين على القوتلي وعلى رجال «الكتلة الوطنية».

تزوج التاجر والصناعي الناجح من عائلة الدقر، المشيخية التجارية. وكانت الأسرة التي أنشأها نموذجاً للبرجوازية الدمشقية المتغربة. وقد أسهمت في هذا زياراته المتكررة إلى أوربا، ومشاركته في المعارض هناك منافساً الصناعة الفرنسية والإيطالية ومتفوقاً عليها أحياناً. لوهلة بدا الرفاه مستمراً إلى ما لا نهاية، رغم الغيوم التي تجمعت في سماء البلاد، والتي تظهرها صورة في ألبوم العائلة، يبدو فيها صادق يصافح، بإيماءة مهذبة، الزعيم الاشتراكي الشعبوي أكرم الحوراني، عام 1963.

نجت شركة غراوي من التأميم، غير أن الحدس أنبأ صاحبها أن عليه أن يحني رأسه للريح، فدخل في تجربة أولى للقطاع «المشترك»، كما تسميه أدبيات الحكم البعثي، عام 1965، فصارت لوزارة الصناعة ملكية 51% من أسهم الشركة، وحق إدارتها واتخاذ القرارات فيها.

في هذه الأثناء كان بسام، المولود عام 1954، يدرج في تعليمه الأساسي في ما بقي من مدارس خاصة، حيث أتقن الإنكليزية والفرنسية، قبل أن يتلقى، يافعاً، صدمة وفاة أبيه المفاجئة عام 1969، ليفتح عينيه على عالم جديد كان عليه فيه أن يتابع أطلال أعمال الأسرة في محل واحد صغير، وأن يكمل تعليمه الذي قاده إلى التخرّج مهندساً مدنياً عام 1983.

تزامنت حياة بسام الجامعية مع أحلك سنوات سورية الحديثة، حين انتشرت دوريات الأمن ومجموعات القوات الخاصة وسرايا الدفاع والجيش في الشوارع

في الحقيقة، تزامنت حياة بسام الجامعية مع أحلك سنوات سورية الحديثة، حين انتشرت دوريات الأمن ومجموعات القوات الخاصة وسرايا الدفاع والجيش في الشوارع. تلاها ركود اقتصادي وندرة للبضائع الأساسية وتقنين للكهرباء في ما تبقى من عقد الثمانينات. غير أن حياة الشاب كانت أسهل بسبب انتمائه إلى مجتمع من النخبة elite تشكلت وقتها في دمشق، تضم أمثاله من سليلي العائلات المخملية ذات الميول العصرية المنفتحة، وأبناء أبرز المسؤولين الفاعلين، وأولاد أسر وجهاء وملاك مهاجرين إلى العاصمة. وكان لهذه الطبقة من الشبان والشابات، ومعظمهم من مواليد الستينات، عدد محدود من النوادي والمطاعم تكاد تقتصر عليهم. وهناك كان من المألوف أن ترى باسل أو بشار حافظ الأسد، أو يعرّفك صديق مشترك إلى أحد أولاد علي دوبا أو محمد الخولي أو عبد الحليم خدام أو مصطفى طلاس.

في هذا الجو بنى غراوي علاقات يروي مقرّبون أنها وثيقة للغاية وبأعلى المستويات، رغم أنه لا يبدو شديد الاعتزاز بها، كما يدلّ ألبوم العائلة، الذي أعدّه هو، مرة أخرى. إذ ينتقل مباشرة من استعراض علاقات صادق الأب، بالأسود والأبيض، مع القوتلي والعظم والرؤساء هاشم الأتاسي وناظم القدسي ومعروف الدواليبي؛ إلى صور الابن بسام، الملونة، مع سفراء ووزراء غربيين فقط، يتلقى التكريم أو يتبادل الحديث في الكوكتيلات.

وربما يفيد هنا أن نلحظ الإخفاق السريع للزواج الذي عقده غراوي من النادي، حين ارتبط بمي هاني مرتضى، ابنة رئيس جامعة دمشق وقتها ووزير التعليم العالي لاحقاً، متولي مقام السيدة زينب وأحد أبرز وجوه الطائفة الشيعية. وبالنظر إلى وسامته ودماثته وثرائه وكرمه، وتأخر هذا الجنتلمان في الزواج حتى السادسة والأربعين، لم يمر طلاقه بهدوء في فضاء النخبة الضيق المليء بالمعجبات والثرثرة. حتى بعد أن تبع خيار قلبه بالزواج، سريعاً كذلك، من أرملته الحالية، رانية إسماعيل، المتحدرة من العائلة الشهيرة في الساحل. وكانت صحفية تغطي الشؤون الاقتصادية لجريدة «الحياة» اللندنية. ومن موقعها أبدت اهتماماً لافتاً ومتعاطفاً مع تشكيك عضو مجلس الشعب رياض سيف، وقتها، في عقود شركتي الخليوي التي كان وراءها رامي مخلوف، ابن خال الأسد، ثم بوقائع محاكمة هذا البرلماني المعارض.

أما عملياً فقد أسس غراوي شركته الخاصة في بيروت، وأتبعها، بعد سنوات، بمعمل قرب دمشق، وراح يحصد النجاحات والجوائز والشهرة. بينما كانت الشركة المشتركة مع الحكومة تنحدر باطراد مع انفتاح الأسواق أمام المنافسة الداخلية والاستيراد، ما اضطرها إلى بيع منتجاتها، ذات الجودة المنخفضة، بشكل إلزامي مع عبوات مياه «بقين» المعدنية الرائجة، ثم إلى التوقف عن العمل في نهاية المطاف.

من جهة أخرى، تولى غراوي مناصب عدة في غرفة تجارة دمشق وتمثيلها وعلاقاتها. وينسب البعض إليه مكاناً متميزاً، في الظل، في إجراءات الإصلاح الاقتصادي (المتعثر) خلال العقد الأول من الألفية. وتذهب أقاويل بعض المطّلعين درجة أبعد، لتصنّفه كواحد من قلة معدودة كانت تصمم القوانين الاقتصادية وتقترحها.

وبعد أن قامت الثورة التقطت وسائل إعلام النظام تصريحاً وحيداً له، إثر لقاء فعاليات دمشقية بالأسد، مطلع أيار 2011، يؤكد فيه، كما هو متوقع، على الالتفاف حول القيادة في وجه «المؤامرة». قبل أن يغلق معمله في حمورية بغوطة دمشق، في العام التالي، إثر سخونة الأوضاع هناك، ويغادر إلى فرنسا، حتى 2015، عندما انتقل للإقامة في هنغاريا/المجر التي أنشأ فيها شركة ومعملاً من جديد، وحصل على جنسيتها بعد نقاش عام، علّق عليه موقع «أوقات الشام»، المقرّب من النظام، بمقالة عنوانها «بسام غراوي رجل أعمال تنكّر لأصله»!

لقد كانت الرياح أعتى من أن يتأقلم معها الدمشقي هذه المرة..