برج المُدَراء ومساوئ الصُّدَف

2018.10.13 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

دخل القنصلية فابتلعته. لم يكن يتصوّر أن الانزياحات التي تحدث في جغرافيّة الأرض يمكن أن تنقل مثلّث برمودا إلى حي كوناكلار في إسطنبول. في لقاءاته وكتاباته كان جمال خاشقجي يتلطّف في انتقاد السلطات العربية، كي لا يقع في المحظور. وقبل شهور، في لقاء تلفزيوني معه، حذّر الآخرين من الجرأة في الحديث عن الفساد المستشري في الدول العربية، لأنه يرى تسونامي الوحشية السلطوية يهدر في دم الحكّام العرب المعاصرين، ويرى أن المثقفين الأحرار يسجنون ويقتلون بلا تبعات. ذلك الحذر والتحذير لم ينقذه من وحشية السلطة المستبدة التي رسمت خطّة لتغييبه، غير أن دخوله إلى مقر قنصلية بلاده شكّل فرقاً كبيراً من الساحة الدولية التي ماتزال تنتظر خروجه حتى الآن. فهل حرّكت الصدفة الرأي العام للمطالبة بمصيره؟ خطيبته كانت بانتظاره على باب القنصلية، صدفة. كتيبة من خمسة عشر سعودياً اقتحمت القنصلية في غير أوقات الدوام، صدفة.

القنصلية المسوّرة بأحدث تقنيات المراقبة، توقّفت كاميراتها عن العمل، صدفة.

حين كنت مقيماً في بيروت، اكتشفت هذا الأمر للمرة الأولى. اكتشفت مساوئ المناصب والصدف. فبعد مضي ثلاثة أشهر على إقامتي في الشطر الشرقي منها، حيث مقر الجامعة التي أكمل دراستي العليا فيها، احتجت إلى كتاب أخبرني المشرف أنه موجود في إحدى مكتبات شارع الحمرا، أي ما اصطُلح على تسميته - بسبب الحرب الطائفية - بالشطر الغربي من العاصمة.

ومن مقر الجامعة إلى " الحدود الغربية؟! " استغرق مسيري عشر دقائق بالتمام والكمال. وهناك ضبطني موظف الحدود متلبّساً بعدم دفع ضريبة الإقامة لدى مديرية مالية الشطر الغربي، وبلّغ رئيسه هذا الاكتشاف الفذّ، ومن موظف إلى آخر، وصلت أخيراً إلى مدير المالية الذي أدرك أنني لن أبدي تجاوباً مع هذه الضريبة المزعومة، شارحاً له أنني دخلت الحدود بشكل نظامي ومعي فاتورة ممهورة بأنني لست بضاعة مهرّبة، ومع أنه لم يعترف بالخاتم الشرقي " للمملكة " ، لم يشأ أن يحوّل المسألة إلى خلاف دبلوماسي بين العواصم العربية، لذلك امتثل إلى إلحاحي واتّصل بالجامعة التي لم تتوانَ عن إرسال (نجدة) بقيادة المشرف على دراساتي لينقذني من براثن البيروقراطية التي جعلتها الحرب الأهلية مضاعفة نتيجة الانشطار.

حينذاك بدأ اكتشافي بأن برج المدراء لا يناسبني، كما لا يناسب جميع مواليد برج الميزان. وقد عزّز هذا الاكتشاف مخاض زوجتي الذي دعاني إلى الحصول على عِشر صحي في أقرب مشفى إلى مكان سكني، ولسوء الطالع اتّضح لي بعد الولادة أنه المشفى الخاص لمدير الصحة الذي سارع إلى انتزاع فرحي بالمولود حين أشهر في وجهي فاتورة ضخمة مشيراً إلى أن إجراءات الحصول على العِشر الصحي من مشفاه غير سليمة.

حين حكيت الحادثتين لوالدي ضحك قائلاً: مجرد صدفة.

وربما صدفة أيضاً امتناع مديرة البنك عن فتح حساب جارٍ لي في فرعها الموقّر بحجة أنني لا أملك سجلاًّ تجارياً، وللسبب نفسه امتنع مدير البريد عن منحي صندوقاً في بريده، لأن الصناديق مخصصة للتجار وحسب!.

أما مدير المواصلات السلكية واللاسلكية في إحدى المدن العربية فقد امتنع عن تمديد خط هاتفي مؤقّت لي بوصفي صحفياً أحتاج إلى خط سريع. وللأمانة فهو لم ينهرني حين عرضت عليه قرار الاتحاد بضرورة تركيب هاتف، وإنما اكتفى بالقول: " روح يَا ا ا ……".

وبالرغم من ذلك كلّه ما يزال والدي يقول لي: صدفة.

ومن مساوئ الصدف أنني حين سارعت إلى دفع رسوم التأمينات على سيارتي (السوزوكي) فوجئت بالازدحام الهائل للمبادرين إلى دفع الرسوم.. أخذت حسبي الله وانتظرت ساعة ونصف بروز ملف سيارتي إلى السطح (سعري بسعر غيري). لكنّ الذي جعل الدم يغلي في عروقي هو ذلك الشخص الضخم ذي الشاربين الكثيفين الذي دخل إلى المدير .. همس في أذنه .. (وبقدرة قادر) وُضعت إضبارة سيارته فوق كلّ الملفات … دفع الرسوم وذهب في دقيقتين… فما كان مني إلاّ أن دخلت حرم الموظفين وبدأت أقلّب الملفات… سألني المدير:

- ماذا تفعل؟

قلت له :أبحث عن ملفي.

- ولماذا؟

- كي أضعه على السطح.. (سعري بسعر غيري)

قال لي: ألم تلحظ أنه همس في أذني؟ قلت: بسيطة.. اقترب كي أهمس في أذنك. غضب السيد المدير وأمر موظّفيه بتأجيل ملفّي إلى آخر الدوام. لكنني - رغم ذلك - دنوت منه وهمست في أذنه.. فاحمرّ وجهه وأشار بأصبعه إلى الموظف هامساً (مشّيه)… وغادر الغرفة.

ولم تدهشني مبادرة الحاضرين إلى مصافحتي مهنّئين.

ولست أدري لماذا قفزت إلى ذهني صورة (دريد لحام) في بعض مسرحياته وأفلامه، فاكتأبت.

أيضاً، يقول والدي: صدفة.

لكنه اقتنع - أخيراً - أن الأمر ليس مصادفة حين صودرت سيارتي مع الأوراق بعد أن تعثّرت بها سيارة المرسيدس لمدير النقل.

لذلك لم يعترض والدي حين عدت إلى حلب وقدّمت استقالتي من التدريس كاتباً :

السيد مدير التربية المحترم

تحية طيبة وبعد

أرجو الموافقة على استقالتي.. لأنك صديقي..

ولأنّ برج المدراء لا يناسبني، سألت المشرف على الصفحة قبل أن أدفع إليه بمقالتي هذه:

هل لديكم مدير تحرير ؟

قال: لا.. بل لدينا رئيس تحرير..

تنفّست الصعداء وسلّمته المقالة قائلاً:

(من دون زعل) .. برج المُدَراء لا يناسبني.