بابا دوبولوس السوبرمان المضاد الذي ينقذ العالم بالسوريين

2018.10.12 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تطرح تجربة الملازم البحري اليوناني كيرياكوس بابا دوبولوس، الذي توفى مؤخرا عن عمر يناهز الـ 44عاما، إثر إصابته بنوبة قلبية سؤالا كبيرا حول مهمة إنقاذ الإنسانية، وهل هي ممكنة أو هل ما زالت مطروحة في الأساس؟

لقد أخذ هذا الرجل على عاتقه مهمة عسيرة ترتبط بإنقاذ اللاجئين السوريين، وصار تبعا لذلك يوصف بأنه ملاكهم الحارس، وبطل بحر إيجة وينسب إليه الفضل في إنقاذ أكثر من 5000 لاجئ.

لا يرتبط عمله بعدد من استطاع إنقاذهم بل بما كان يحاول إنقاذه، إذ أن التعامل مع السوري اللاجئ

انفجار التيارات اليمينية وصعودها انطلاقا من مواقفها الراديكالية المعادية للاجئين مؤشرا خطرا ينذر بنسف أوروبية أوروبا، وتحويلها إلى مستنقع من العنصرية والشوفينية

الهارب من جحيم البراميل الأسدية المتفجرة وصواريخ بوتين وسكاكين إيران وحزب الله وغيرهم، بات معيارا للحكم على إنسانية العالم والدول، ومدى ارتباطها بالقيم التي كانت قد أسستها.

لقد فجرت أزمة اللجوء عقل أوروبا والعالم وأدى ربطها بالإرهاب إلى تهديد كل ما تراكم من تنوير وعلمانية، فبات الحضور الأوروبي في مواجهة مع تاريخه ومع علمانيته. كان انفجار التيارات اليمينية وصعودها انطلاقا من مواقفها الراديكالية المعادية للاجئين مؤشرا خطرا ينذر بنسف أوروبية أوروبا، وتحويلها إلى مستنقع من العنصرية والشوفينية.

تصنع سيرة بابادوبولوس معالم وصفات السوبرمان المضاد لكل سوبرمانات اليمين المتطرف في كل العالم كونه أعاد الاعتبار للقوى الجبارة لفعل الرقة والبعد العميق لمفهوم الخير.

يجعل من السوري اللاجئ جسرا تعبر منه الإنسانية نحو استعادة رشدها، ويحاول من خلال صورة اللاجيء الناجي بث مفهوم التبادل الفعال، الذي يعني ببساطة أن ذلك الشخص الذي وهبته أملا في لحظة كان يقارع فيها النهايات المطلقة، سوف ينحاز إلى البدايات بما تعنيه من حماسة وزخم، وسيعيد إنتاج الأمل الذي منح له.  

بابادولوس كان ينقذ السورييين معتبرا أن الحفاظ عل سوريتهم هو المدخل الذي يسمح لأوروبا بأن تبقى وأن تكون، فالعالم كان يطالب السوريين في الأماكن التي فروا إليها بأن لا يكونوا سوريين، وأن يقطعوا كل الصلات التي تربطهم بسوريتهم، ويقدم لهم في مقابل ذلك ليس النجاة، ولكن إقامة جبرية في ظروف من الاحتضار الطويل والدائم.

لعل الأمل الذي قدمه بابادولوس للسوريين يكمن في تصدر سوريتهم واجهة المشهد، فالرجل كان ينقذ السوريين في مشهدية تسخر من الحدود اللفظية التي تسعى إلى إقامة سياج مكهرب بين معنى اللاجئ وصورة السوري، معتبرة أن مواصفات اللاجئ لا تنطبق على السوري، في حين أنه لايوجد حاليا في العالم الحديث أي جماعة هجرت من بلادها بهذا الشكل المرعب والمروع سوى السوريين.

السوري ليس لاجئا في نظر العالم لأنه كان يحارب نظاما لا يمكن إنكار شبكة علاقاته الأوروبية، والاستثمار الأوروبي في حربه على شعبه، لاستخدام الجغرافيا السوري كمقبرة جماعية لكل الموالين للفكر المتطرف من حملة الجنسيات الأوروبية.

كانت أوروبا تخشى من بنيتها القانونية ومن نظامها فقررت الركون إلى التحالف مع العالم السفلي، وكانت في ذلك أشبه بمن يهادن تمساحا شرها على أمل أن يكون آخر من يفترسه كما تقول حنه ارندت ساخرة عن فكرة التفاهم مع الديكتاتوريات. لا تريد أوروبا فتح محاكمات ولا تريد تطبيق العدالة ضد هؤلاء الذين تربوا في داخلها ولكن فشلها في إنتاج سياسات استيعاب دفع بهم إلى أحضان الإرهاب.

 تتجنب أوروبا مساءلة نفسها، وتركن إلى الخيار الإبادي وتعتمد فكرة الإعدام دون محاكمات، وتعتبر أن ما يمكن تنفيذه في سوريا يبقى في سوريا، وكأن تلك البلاد هي خزانة مغلقة، لا يسمع في العالم أي أصداء لما يحدث فيها.

جاءت أزمة اللجوء لتضع أوروبا أمام انفجار الخزانة  في وجهها فوجدت نفسها أمام مسؤوليتها في إنتاج عالم الخراب الأسدي بكل ما فيه من أهوال، فكان السوري القتيل والمشرد والمتروك لمصيره في العالم هو انعكاس لصورة أوروبا نفسها التي ظهرت غير ممتلكة لقيمها.

أن تفقد قيمك يعني أن تفقد العالم المنبثق منها. بدت أوروبا وكأنها تسقط خارج عالمها، وكانت الخطابات

اللاجئ السوري يتحول بفعل الرقة إلى مواطن من جديد، وهذا المواطن لم يفقد وطنه إنما طرد منه، وهو يبحث عن مكان ليمارس فيه فعل المواطنة الذي حرم منه والذي حولته الأنظمة إلى فعل مستحيل

التي يتلوها بعض قادة اليمين المتطرف فيها، والذي صعد على أكتاف الموقف من قضية اللجوء تقول إن أوروبا قد باتت أسدية الهوى، وإن خطابها يقول اذبحهم بعيدا عنا، ولا تعكر صفو عالمنا بهذه المجزرة.

سوبرمانية بابادوبولوس تتحدد في منع أوروبا من أن تنتحر بالأسد وأخلاقه، فاللاجئ السوري الذي يتم إنقاذه يحمل معنى لجم انتحار أوروبا، ولعل الصور القليلة التي تظهر بابادوبولوس وهو يهتم باللاجئين تظهر دور الرقة في إعادة إنتاج العالم. اللاجئ السوري يتحول بفعل الرقة إلى مواطن من جديد، وهذا المواطن لم يفقد وطنه إنما طرد منه، وهو يبحث عن مكان ليمارس فيه فعل المواطنة الذي حرم منه والذي حولته الأنظمة إلى فعل مستحيل.

الفرق بين المواطن وذلك الكائن المعد للإهدار في عرف أنظمة منطقتنا هو هدية بابودوبولوس للسوريين والعالم فهو حين يسمح لهم بالرقة والتعاطف الإنساني بأن يكونوا مواطنين، يهبهم وطنهم ويمنع شرعنة سلبهم إياه، ويعيد الاعتبار لفكرة المواطن في العالم، أي ذلك الكائن الذي لا يمكن لأي شيء أن يسلبه وطنه، والذي يبقى انتماؤه إليه ثابتا مهما جرى.

يفكك سلوك بابادوبولوس فكرة الإرهاب عن المكان والزمان فدعوات التيارات الإرهابية إلى عدم الاعتراف بالحدود تستهدف فكرة المواطن وزمان الأوطان من أجل خلق الكائن الطريد الذي لم يقع  خارج الوطن وحسب، ولكن خارج القانون وخارج الإنسانية.

السوري كان سوريا وسيبقى سوريا، هذا ما يعلنه بابادولوس السوبرمان المنسي الذي يريد أن ينقذ بالسوريين العالم ويعيد لأوروبا روحها.