بئس الجنسية اللبنانية

2018.06.10 | 00:15 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أثار المرسوم الرئاسي اللبناني الخاص بمنح الجنسية لعشرات من العائلات والشخصيات ذوي الأصول السورية (وهم الأكثرية) والفلسطينية والأردنية والمصرية، لغطاً واسعاً لدى الرأي العام اللبناني، كما أثار الكثير من الشبهات والشكوك بوجود صفقة مالية وسياسية بين ثلة من السلطة اللبنانية ورموز فاسدة من الأثرياء المقربين من النظام السوري وبعض مموليه، الذين يبحثون عن وسائل لحماية ثرواتهم وأعمالهم، وتجنب العقوبات الدولية القانونية والمصرفية.

وتعززت تلك الشكوك بعد أن تبين أن المرسوم أُنجِز في عتمة السرية، وكان تسريب مضمونه عبر أحد أعضاء البرلمان، سبباً لحرج بالغ في دوائر الحكومة وفي القصر الرئاسي معاً، وتأكدت الشبهات على وقع التخبط في رد فعل دوائر الإدارة اللبنانية وارتباكها الفاضح في تعليل الواقعة ومبرراتها، خصوصاً وأن منح الجنسية اللبنانية لمواطنين من أصول عربية، وبالأخص الفلسطينية والسورية، يوقظ مخاوف عميقة لدى الكثير من اللبنانيين، والمسيحيين منهم تحديداً.

وعلى الرغم من ضآلة المنتفعين (حوالى 300 شخص)، بل وعلى الرغم من أن المرسوم يلحظ "التوازن" الطائفي في عدد المجنسين، فيمنح الجنسية لمسلمين ومسيحيين، إلا أن "الوسواس" القديم من الاختلال الديموغرافي أولاً، ومن تذويب "الهوية" اللبنانية في "الطوفان العروبي والإسلامي" ثانياً، ومن فقدان ما يسميه الكثير من اللبنانيين "التمايز الثقافي والاجتماعي" ثالثاً، جعل رد فعل قسم كبير من الرأي العام والإعلام وبعض السياسيين متسماً بالتعصب "القومي" المتقيّح عنصرية وكراهية وادعاءات شوفينية، متفاقمة بالتوازي مع تفاقم الانحطاط اللبناني.

 "هذا المرسوم لن يمر مرور الكرام، ولا يمكن القبول بتحويل الجنسية اللبنانية إلى سلعة تباع مقابل الأموال، ولمن؟ للقتلة ولكبار معاوني القتلة"

والمفارقة هنا أن أصحاب الخطاب الهوياتي والشوفيني، الذين أغضبهم هذا المرسوم الرئاسي، هم من الذين يدينون بالولاء الشديد لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهم المناصرون المخلصون لصهر الرئيس والوزير العتيد والنائب الجديد جبران باسيل، الذي يمكن وصفه بقائد الحملة "القومية" ضد اللاجئين وضد "مؤامرات التوطين". فأتى المرسوم ليفجر في نظر الأتباع والأشياع تناقضاً صارخاً بين خطاب حزب الرئيس وصهره من جهة، ودورهما في إنجاز هذا المرسوم من جهة أخرى. وعلاوة عن البعد "الأيديولوجي" في هذا التناقض، ثمة تناقض "أخلاقي" أيضاً. إذ أن تيار عون – باسيل الحزبي والسياسي قام أصلاً على ادعاء شعبوي صاخب بمحاربة الفساد في الدولة، وهو سمّى نفسه "تيار الإصلاح والتغيير". وبما أن المرسوم العتيد تضمن أسماء مشبوهة وتلاحقها اتهامات دولية، فلم يسلم من تهم فساد قوية وشبهات بصفقة مالية ضخمة، والأسوأ هو احتمال وجود صفقة سياسية بين بعض الدولة اللبنانية والنظام السوري.

في هذا السياق، بدا تصريح الوزير وائل أبو فاعور معبراً بقوة عن وجود صفقة سياسية وشبهة فساد، إذ قال: "هذا المرسوم لن يمر مرور الكرام، ولا يمكن القبول بتحويل الجنسية اللبنانية إلى سلعة تباع مقابل الأموال، ولمن؟ للقتلة ولكبار معاوني القتلة"، في إشارة منه إلى النظام السوري وأعوانه.

وإذا تركنا جانباً رد الفعل الشعبوي والعنصري الذي يظن أن الجنسية اللبنانية "امتياز" لا يستحقه "الغرباء"، بل وبغض النظر عن التخلف السياسي والحقوقي والتمييز الجندري، الذي يحرم أبناء الأم اللبنانية من جنسيتها، وهو حرمان مصدره أيضاً ذاك الوسواس الديموغرافي والطائفي والشوفيني، الذي عبر عنه خير تعبير اقتراح الوزير باسيل بحق المرأة اللبنانية منح أبنائها جنسيتها، لكن عدا المتزوجات من السوريين والفلسطينيين وسائر دول الجوار.. وبغض النظر عن أحقية الكثيرين ممن وردت أسماؤهم في المرسوم بنيل الجنسية كما الآلاف من المقيمين المحرومين ظلماً من حقوق المواطنية، فإن هذا المرسوم تحديداً يكشف أن "حراس" الجنسية المقدسة قد يكونون هم أول تجارها، وأن دوافع ترتيبه وتوقيعه ليست إنسانية، وإنما تتصل بمصالح ضخمة وبعيدة المدى. فمن جهة هناك عصابة أسدية و"نخبة" من أركان الاقتصاد المافياوي السوري تكافح لإنقاذ نفسها من العقوبات الدولية وتسعى لاستثمار المليارات من أموالها، ترى في الجنسية اللبنانية منفذاً لها للدخول إلى النظام المصرفي الدولي من دون عوائق، وتسهيلاً لها لتأسيس الشركات والمؤسسات والوكالات التجارية وتسيير صفقاتها عبر المرافئ اللبنانية واكتساب حق التملك والتنقل والسفر والإقامة. وهناك من جهة ثانية، فريق من أصحاب النفوذ والسلطة في لبنان يستغلون هذه الحاجة السورية ويلبونها مقابل مبالغ كبيرة أولاً، ويعقدون صفقة سياسية مع النظام ثانياً، تضمن لهم بالذات نيل حصة استثمارية هائلة من مشاريع "إعمار" سوريا.

على هذا، يكشف المرسوم ويؤكد مرة أخرى ذاك الاندماج التام بين السلطة السياسية والمافيا المالية في سوريا كما في لبنان، وعبر هكذا صفقة يُعاد بناء "النظام الأمني السوري اللبناني المشترك" السيء الذكر، لكن هذه المرة بصبغة "اقتصادية" يمكن وصفها أنها شبكة الفساد الأكثر تعقيداً ونفوذاً.

المال الأسدي الملوث بدماء مئات الآلاف من السوريين والمغمس بدموع ملايين السوريين يجد ضالته بطبقة سياسية لبنانية كلما بالغت بفحيحها الطائفي وسمّها العنصري كلما توغلت أكثر في البيع والشراء وانعدام الذمة السياسية والأخلاقية والوطنية.

أما بخصوص الجنسية اللبنانية وأوهام شوفينييها وعنصرييها، فمن الواجب التذكير أن لبنان "الذهبي" ما هو إلا ذاك البلد الذي امتاز بصفته ملجأ لطلاب الحرية وللهاربين من اضطهاد الأنظمة الجائرة.

هذه الطبقة التي تبدو وكأنها أحزاب متصارعة لشدة تحريض جماهيرها على بعضها البعض، وعدم ترددها باستنفار العصبيات وتلويحها بالفتنة لتكتيل جمهورها في المزايدات السياسية والانتخابية، تبدو في حقيقتها العملية والواقعية قادرة باستمرار على "التفاهم" التام في تقاسم المغانم وإدارة مصادر النهب وحصص الأرباح غير المشروعة وتوزيع المكاسب وترتيب الصفقات.

وتذهب تلك الطبقة في محاولتها للتمويه عن فسادها إلى الإيغال في "الجريمة" أكثر وإلى المزيد من فحش الكذب. فعلى ما يبدو، لا يمكن تفسير إثارة ملف اللاجئين السوريين ومخيماتهم مجدداً على نحو أكثر ابتذالاً وعنصرية ووقاحة إلى حد افتعال أزمة مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان، والتابعة للأمم المتحدة، إلا بوصفها محاولة شعبوية مكشوفة للتغطية على فضيحة الصفقة المتعلقة بمرسوم التجنيس. ومرة ثانية يتكشف السقوط الأخلاقي والانحطاط عند هذه الطبقة، حيث الترحيب باللصوص والمجرمين و"لبننتهم" من ناحية، والترهيب والتضييق والإذلال للفقراء المشردين المضطهدين و"شيطنتهم".

أما بخصوص الجنسية اللبنانية وأوهام شوفينييها وعنصرييها، فمن الواجب التذكير أن لبنان "الذهبي" ما هو إلا ذاك البلد الذي امتاز بصفته ملجأ لطلاب الحرية وللهاربين من اضطهاد الأنظمة الجائرة. لبنان الذي كان واحة للديموقراطية ومركزاً للاقتصاد الحر، الذي وفد إليه رأسماليو بغداد وحلب والموصل ودمشق والقاهرة والإسكندرية في لحظة استيلاء العصابات العسكرية على مقدرات تلك البلاد وتأميمها لممتلكات الناس ومصانعهم وأرصدتهم.. كما كان الملجأ للأقليات الدينية والقومية المضطهدة، من كرد وأرمن وأشوريين وكلدان وأقباط وسريان وبهائيين ويهود وشركس، بل ملجأ لأصحاب البدع والمبشرين والدعاة من كل النحل والملل.. وكان الحماية للاجئين السياسيين الهاربين من القمع والبطش، وكان الرصيف المفتوح والمطبعة والصحيفة والمنبر والمسرح للفنانين والمثقفين والكتاب والمفكرين والشعراء. وكان الجامعة والمعهد والمصرف والمتجر والمستشفى والفندق والمصنع والمأوى للطلاب والموهوبين والمغامرين، وللساعين إلى نمط العيش الحر وإلى الحياة الكريمة والمصانة. هؤلاء بالذات هم الذي منحوا لبنان "ذهبيته"، ومنحوا بيروت تحديداً ذاك المجد الغابر. فهل يمكن تخيل أبهة هذه العاصمة مثلاً لولا الجامعة الأميركية وما أتت به من خليط جنسيات، خصوصاً منهم الجالية البروتستانتية من الفلسطينيين المقدسيين؟ يجهل الكثيرون أن نهضة منطقة الحمرا قامت بفضل المال الخليجي واستثماراته أولاً وبفضل الذين استوطنوه من عرب وأجانب ثانياً، لا عد لجنسياتهم واكتسبوا عن حق "المواطنية" اللبنانية. يشهد تاريخ المدينة أن أولئك "اللاجئين" المجنسين هم الذي عمروا منطقة فردان وجوارها، وهم الذين ساهموا في جعل الأشرفية واحدة من أرقى الأحياء، عدا المناطق والأحياء الأخرى كبدارو (إسم عائلة حلبية)، والرملة البيضاء ورأس بيروت، والقنطاري والمنارة وتلة الخياط والمزرعة.. وصولاً إلى خارج العاصمة من الحازمية وصولاً إلى برمانا وسائر القرى والبلدات الجبلية، وهم الذين أيضاً كانوا السبب في عمران برج حمود والضواحي الشرقية من العاصمة وكانوا العصب الأساسي في ازدهار المناطق الصناعية القريبة. ثم إن هؤلاء كانوا العامل الحاسم بعد عام 1957 في تراكم الثروات بالمصارف اللبنانية، ما أسهم مباشرة بجعل الاقتصاد اللبناني ينافس في الستينات والسبعينات اقتصادات دول نفطية. وبنظرة أوسع، يدين لبنان برخائه وازدهاره السابقين إلى استثماره لكارثتين: النكبة الفلسطينية والانقلابات العربية.

ومن جانب آخر، يجب التذكير دوماً أن التاريخ الثقافي الحديث لبيروت يكاد يكون تاريخاً صنعه من هم من أصول غير لبنانية. ذاك الـ"لبنان الذهبي" بقيم التسامح والانفتاح، وتلك الـ"بيروت" الباهرة الكوزموبوليتية، ما هما إلا نتاج رحابة الجنسية اللبنانية وانطوائها على معنى الحرية والكرامة. وهذا على النقيض مما أوصلنا إليه النظام اللبناني السوري المشترك، في حقبتيه الأمنية السابقة والمافيوية الراهنة.

 

كلمات مفتاحية