اليوم العالمي للبنات، وتجانس المجتمع السوري

2018.10.17 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الحادي عشر من الشهر الحالي، أكتوبر/ تشرين الأول، كان اليوم العالمي للبنات، وهو اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة منذ العام 2012 لدعم الأولويات الأساسية من أجل حماية حقوق الفتيات والمزيد من الفرص لحياة أفضل، وتمكين الوعي لديهن بذواتهن وما يمارس بحقهن من عدم المساواة والظلم وتقييد الحريات وحرمان من الفرص في جميع أنحاء العالم على أساس جنسهنّ.

قبل أن ترميني هذه المناسبة في مواجهة السؤال الصعب، سؤال تجانس المجتمع السوري، تذكرت بشيء من الطرافة بعض الأغاني التي انشغلت بالبنت، أغنية نانسي عجرم "البنات البنات ألطف الكائنات"، وأغنية صباح "أمورتي الحلوة بقت طعمة" وتذكرت كثيرًا مما غنت فيروز بشاعرية بالغة عن أحلام البنات "يارا الجدايلها شقر، الفيهون بيترندح عمر". كما استدعت الذاكرة رواية أمين معلوف التي صدرت في العام 1992 "القرن الأول بعد بياتريس"، تدور حول شركة أدوية تعمل على تسويق دواء، هو في الأساس دواء شعبي، يمكّن الأهل من إنجاب أولاد فقط، بطلها عالم متمسك ويدافع بشراسة عن أنوثة العالم، ويلفت إلى المؤامرة الرهيبة التي تحاك من قبل العالم القوي شمال خط الاستواء بحق العالم الضعيف جنوبه.

كما تذكرت أيضًا سردية استمرت لأكثر من عام كتبها الكاتب والإعلامي التونسي كمال رياحي بلغة جميلة وعاطفة في أعلى ذراها منذ أن كان ينتظر في المستشفى ولادة "طفلته" حتى كبرت وصارت بعمر يقارب العامين، وما زال يتحفنا بقصص وسرديات جميلة عن "ليزا" ابنته، عن ليزا التي فجّرت ينابيع أبوّته بطريقة رائعة، فصرنا، نحن متابعي صفحته نشعر أن هناك شيئًا يربطنا بليزا، وصار ما كتب عن ليزا جديرًا بأن يصدر في كتاب أدبي يكفي ليكون مثالاً عن احتفال الأدب بالأنوثة وبـ"البنت".

هناك الكثير من القرائن التي يمكن استحضارها للدلالة على مفهوم الأنوثة والاحتفاء بالبنت لدى شرائح من المجتمع

طبعًا هناك الكثير من القرائن التي يمكن استحضارها للدلالة على مفهوم الأنوثة والاحتفاء بالبنت لدى شرائح من المجتمع، ربما أكثرها ينتمي إلى النخبة، لكن حتى هذه الشرائح فإنها لا تشكل أغلبية فيما يتعلق بمفهوم الأنوثة، أو التعامل مع الكائن البشري الأنثى على أساس كينونته الإنسانية وليس على أساس الجندر. 

أعود إلى السؤال الأصعب: هل كان في سوريا مجتمع متجانس قبل الحرب؟ إذا سلمنا بالواقع الحالي الذي يقدم كل المؤشرات على أن المجتمع السوري الحالي مجتمع غير متجانس، بل الحقيقة التي بات من الصعب تمويهها أن الانقسام المجتمعي ترسخ قبل المناطقي في السنوات السورية الدامية. فإذا كان المجتمع بتعريف بسيط هو مجموعة من البشر يعيشون فوق بقعة جغرافية محددة، فإن هذه البقعة لم تعد جغرافية طبيعية فقط، بل هي جغرافيا سياسية بعد أن نظمت البشرية نفسها في كيانات تحكمها أنظمة تدير شؤونها وتميزها بحدود عن بقية الكيانات المجاورة.

وسوريا الحالية لم تعد سوريا قبل ثماني سنوات خلت. المجتمع الكبير يتكون من مجموعات فرعية أو مجتمعات أصغر تحكمها روابط متنوعة، وفي سوريا ما أكثرها، ومن حيث المبدأ فإن هذه المجموعات تنخرط في هوية شاملة للمجتمع الكبير يلتزم فيه الجميع بمبادئ أساسية تمكّن العيش المشترك، منها على سبيل المثال الاعتراف بشرعية الحكومة وسيادة القانون، الاعتراف بالحقوق وبالآخرين، احترام مبدأ المساواة والتعبير عن المعتقد والرأي، الشعور بالانتماء والعمل برغبة في سبيل خدمة وتقدم المجتمع الكبير الذي يعيش فيه، وغيرها هناك الكثير من المشتركات التي يمكن أن تجتمع عليها المجتمعات الفرعية. من هذا المنطلق لا يمكن القول بأن المجتمع السوري كان مجتمعًا متجانسًا، مثلما هو اليوم أيضًا في ظل الحرب وما نجم عنها من تصدعات عميقة في بنيانه، مجتمع غير متجانس.

عندما يتحكم الاستبداد في مفاصل وأركان الدولة والمجتمع على مدى عقود أو قرون من الزمن، لا يمكن الحديث عن مجتمعات متماسكة متجانسة قابلة للعيش ضمن دولة حديثة تقوم على أساس الحقوق والواجبات وعلى مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة، خاصة إذا تضافر الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي. والواقع الحالي يظهر عمق الشروخ التي نجمت عن مجتمع متهتك النسيج مهلهله، لم يكن تجانسه السابق غير صورة وهمية من الاستقرار المفروض بقبضة أمنية متينة دفع بالحياة إلى حالة من الاستنقاع المضلل. 

لكن ما يقلق أكثر أن كل تلك المجتمعات الفرعية التي كانت تعيش وهم التجانس وتتعايش تحت مظلة شمولية سياسية أمنية حديدية، تشترك فيما بينها بثقافة متجذرة تاريخيًا ترتبط بالديني بشكل أساسي والأعراف والتقاليد الراسخة التي لم يشتغل عليها نظام البعث الحاكم منذ خمسين عامًا، البعث الذّي يعرّف نفسه بأنه حزب انقلابي، فبقي العديد من المناطق السورية يعيش ويدير حياته بنظام القبيلة والعشيرة، بنظام ما قبل الدولة، حتى في الحواضر والمدن لم يتحرر سكانها من هذه القيم والأعراف والثقافة، ولم يسع النظام إلى تغيير القوانين التي تمس جسد تلك الأعراف المرتبطة بالدين بشكل أساسي.

في صلب هذه الثقافة كانت الصورة النمطية للمرأة محمية بدرجة فائقة، وشخصيتها تُرسم وحضورها يُفرض في المجال العام وفق معايير تدفعها إلى مرتبة دونية ويُمارس بحقها التمييز بكل أشكاله وفي كل مرحلة من عمرها، فلا القوانين منحتها المساواة ولا المجتمع تعامل معها بعدالة، من قوانين الميراث الى الزواج إلى الحضانة ومنح الجنسية، إلى تعدد الزوجات إلى قوانين الطلاق والنفقة والمهر وغيرها، وصولاً إلى قوانين "الشرف"، وكان يكفيها أن تُلقى على أكتافها حمولة القيم الظالمة، قيم العفة والطهارة والعرض والشرف، حتى في المناهج المدرسية كان هناك تكريس لهذه الصورة النمطية الدونية للمرأة، فالمرأة تغسل وتكوي وتطبخ وتمسح وتجلي، والأب يعمل خارج المنزل ويسافر ويختلط بالناس. 

المجتمع السوري لم يكن متجانسًا والدليل هو هول المتناقضات والتناقضات التي كشفتها السنوات الماضية

المجتمع السوري لم يكن متجانسًا والدليل هو هول المتناقضات والتناقضات التي كشفتها السنوات الماضية، الدليل هو سرعة الانهيارات المجتمعية التي حصلت، هو في سرعة بروز تلك الكيانات الهوياتية المتناحرة القائمة على الانتماءات الضيقة من مذهبية وقومية وغيرها، هو هذا الغياب لوعي الذات والآخر، الدليل الدامغ هو تأصيل دونية المرأة وتكريس تبعيتها في كل المناطق السورية.

المرأة السورية دفعت أثمان هذه الحربة بعدما كانت ضحية التمييز المقنّع أحيانًا بالشعارات الطنانة، والسافر أحيانًا كثيرة من دون خجل أو مراعاة لأي اعتبار. لم تكن المرأة تعامل على أساس أنها مواطن مثلها مثل الرجل، بل لم يكن الفرد السوري يُعامل على أساس أنه مواطن بل كان فردًا من رعية يحكمه نظام شمولي ديني وسياسي واجتماعي يعمل على إماتة الفردية والتميز لديه، وكانت المرأة الحلقة الأضعف، فمنذ ولادتها كوليد أنثى يبدأ التمييز بحقها، ولم تقدم لها تجربة الانتفاضة السورية ما كانت بحاجة إليه، فها هي تعاني في المناطق التي تحت سيطرة المعارضة من تحكم قوانين وتشريعات تهين كرامتها، وها هي تدفع من كرامتها فواتير القهر والفقر والتشريد والتجويع، طفلة كانت أم فتاة أم امرأة ناضجة، تحرم من التعليم، تدفع إلى الزواج الباكر، تجبر على أن تكون زوجة ثانية وثالثة ورابعة، تعاني كأرملة، وما أكثر ما خلفت الحرب من أرامل، من صحتها وعمرها وكرامتها كي تعيل أطفالها وأسرتها، يُمارس بحقها العنف بطرق شتى.

ليس هذا واقعها في مناطق سيطرة المعارضة فحسب، بل في مناطق النظام، حيث لم يكن وضع المرأة مثاليًا، بل كانت قضيتها من القضايا التي لم يعالجها "الحزب الانقلابي"، وبقيت الأبواب مواربة على قوانين الأحوال الشخصية وجرائم الشرف، وصارت المرأة بدخولها سوق العمل بسبب الحاجة المادية بالدرجة الأولى تعاني من العبودية المزدوجة. لم تسعَ الحكومات المتعاقبة إلى تطوير وعي المرأة بذاتها، ولم يكن الاتحاد النسائي "المنحلّ" أكثر من بوق للنظام وكيان فارغ ملحق بعجلة فساده، فبقيت المرأة محكومة بظروف الحياة القاسية وبسطوة القوانين والأعراف. حتى إن الفورة التي رافقت السجال حول القانون رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف لم تكن ناجمة عن وعي، بل هي في غالبيتها ردة فعل أساسها الانقسام الهوياتي المجتمعي في سوريا الحالية، فالمجتمع السوري بمجموعاته الفرعية ما زال يتبنى ويمارس السلوك نفسه تجاه المرأة وتجاه كثير من القضايا المجتمعية، من هذا المنطلق، منطلق الثقافة "الهدّامة" فإن المجتمع السوري "متجانس" بجدارة.