المهجرون وإعادة الإعمار كوسائل لترسيخ الدمار والاستبداد

2018.08.23 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

فجأة، تفيض النزعة "الإنسانية" لدى بوتين، تجاه المهجرين السوريين الذين توزعوا في كل أصقاع الأرض (وكأنهم مغرمون بالاكتشافات الجغرافية والسياحة)، فيدعو إلى بذل الجهود لمساعدة هؤلاء "السياح" في تأمين العودة الآمنة إلى مناطقهم، حيث قال في لقائه المستشارة ميركل: "نحن بحاجة إلى تعزيز الجهود الإنسانية في الصراع السوري، وأقصد بذلك جميع المساعدات الإنسانية المقدمة للشعب السوري، ومساعدة المناطق التي يستطيع اللاجئون الذين يعيشون في الخارج العودة إليها".

ولا ينسى بوتين أن يذكّر الأوروبيين بأن هؤلاء المهجرين يسببون أعباء وضغوطًا على بلادهم عامة، وعلى ألمانيا خاصة كونها استضافت حوالي 800 ألف سوري هربوا، منذ بداية تدخله "الإنساني" في سورية نهاية عام 2015، بطريقة تزيد دعم اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين في أوروبا، متناسياً تماماً السبب الذي أجبر السوريين على الخروج من ديارهم مكرهين، من بعد بدء غاراته الجوية وصواريخه بعيدة المدى وقنابله الارتجاجية، ومختلف صنوف الأسلحة التي تباهى بفاعليتها في أجساد السوريين، حيث حوّل سورية وأجساد أبنائها إلى ميدان حيّ لتبيان فاعلية الأسلحة الجديدة.

متناسياً تماماً السبب الذي أجبر السوريين على الخروج من ديارهم مكرهين، من بعد بدء غاراته الجوية وصواريخه بعيدة المدى وقنابله الارتجاجية

قبل مساعي بوتين ودعواته، كانت تصريحات بشار الأسد الذي قال الشهر الماضي: "إننا نشجع كل سوري على العودة إلى سورية"، ومن بعده تصريحات المجرم جميل حسن، رئيس الإدارة الأقوى في سورية -المخابرات الجوية- التي حوّلت السجونَ وأماكن الاحتجاز إلى مسالخ بشرية، وإلى محارق للأحياء، بعد أن تذيقهم مختلف صنوف التعذيب، حيث قال في حديث إلى عشرات الضباط: "سيتم التعامل مع العائدين مثل الأغنام: الفاسد منها سيُذبح، أما الصالح فسيتم الاستفادة منه".

لم يكتفِ جميل حسن بذلك، بل عبّر علناً عن تفضيله لسورية، بعشرة ملايين شخص موثوقين مطيعين للقيادة، على سورية بثلاثين مليوناً من المخربين. "بعد ثماني سنوات، لن نقبل سورية بوجود خلايا سرطانية، وسيتم استئصالها بالكامل".

"سيتم التعامل مع العائدين مثل الأغنام: الفاسد منها سيُذبح، أما الصالح فسيتم الاستفادة منه".

تكمن غاية بوتين من اهتمامه بضحاياه -المهجرين- السوريين، والدعوة إلى المشاركة في إعادة الإعمار في سورية -وهي العملية التي ليس بمقدوره أن ينجزها على الأرض، بعد أن دمّر الكثير من المدن وحوّلها إلى ساحات من ركام وبخاصة حلب- في إطار سعيه لإضفاء الشرعية على "انتصاراته" وتدميره للبلاد من جهة، ومن جهة أخرى للمتاجرة بهم وحشر الغرب في زاوية أن الغرب يرفض عودة اللاجئين وإعادة الإعمار.

على مدار السنوات الماضية، أنشأ نظام الأسد مجموعة كثيفة من الشبكات، والروابط التي تضم كبار مسؤولي النظام، والبيروقراطية الحكومية، والآليات التشريعية، وقطاع المنظمات غير الحكومية الذي يسيطر عليه النظام، ورجال الأعمال الزبانية، وأمراء الحرب، والموالين الانتهازيين، من أجل خلق جهاز إعادة إعمار غير قابل للتأثر الفعلي بالضغط الخارجي.

لا شك أن نظام الأسد، بعد سيطرته مؤخراً على المنطقة الجنوبية -حيث حقق سيطرة على أكبر رقعة جغرافية متصلة- رأى نفسه وكأنه حاز نصرًا يمكّنه من الانتقال خطوة أبعد في اكتساب الشرعية والسطوة، من خلال استخدام إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار لغرض واحد فقط: إعادة فرض سلطته، وتشديد سيطرته على المجتمع والاقتصاد السوريين، وتغيير ديموغرافيات سورية بشكل أساسي، لتحقيق ما وصفه الأسد نفسه بأنه "مجتمع أكثر صحيّة وأكثر تجانسًا".

يبدو أن تصريحات بوتين وزبانيته من النظام، في حالة تكامل بالجوهر، رغم تناقضها الظاهري؛ فالسيد بوتين يتجاهل أسباب التهجير الحقيقية، وهي قصفه الوحشي للسوريين وتهديم بيوتهم فوق رؤوسهم. وتصريحات رأس النظام الذي عبّر مراراً عن رغبته في خلق مجتمع متجانس من السوريين، تنطلق من المواصفات التي يحددها جميل حسن، وشرطها الأول الطاعة لتكتمل صورتها الكاملة بـ "الأغنام"، من خلال خلق مجتمع عبودي عبر شبكات من التجسس والمراقبة التي تحدد الصالح والفاسد من "الأغنام".

وتكون مقدمة لعقد مؤتمر دولي حول إعادة الإعمار، ينتزع أيضاً من روسيا ونظام الأسد الدور الريادي في العملية

أمام عجز روسيا بوتين وإيران أيضاً، عن القيام بمهمة إعادة الإعمار وتوفير الشروط لعودة اللاجئين، وإلحاحه على مشاركة المجتمع الدولي عامة والغرب خاصة، وهو الأمر الذي لم يلق قبولاً حتى الآن، قد تكون هناك لحظة مناسبة للغرب والمجتمع الدولي للسعي نحو استصدار قرار دولي، بعد استنفاد آستانا وعقم محادثات جنيف، يؤسس لعودة حقيقية وآمنة، من خلال السعي لخلق بدائل لهما تنزع آليات الاستبداد الأسدية، وتعرّضه للعقوبة المباشرة بموجب الفصل السابع، وتكون مقدمة لعقد مؤتمر دولي حول إعادة الإعمار، ينتزع أيضاً من روسيا ونظام الأسد الدور الريادي في العملية.

لا شك أن السوريين عامة والمهجرين خاصة يتوقون لعودة آمنة إلى مواطنهم، تكفل لهم شروط الحد الأدنى، وأولها حق الحياة كبشر، وكسر آليات الاستبداد وأدواته: فروع المخابرات العديدة التي لا ترى الناس سوى "أغنام"، أي عبيد خانعين، وهو ما رفضه ويرفضه السوريون، وقدموا من أجل تحقيق إرادتهم مئات الألوف من البشر ومثلهم من المعتقلين، ولن يعودوا في النهاية إلى حظيرة الأسد تحت سلطة راعٍ جديد.