المنطقة الآمنة وعمق الوجع السوري

2019.08.15 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الاتفاق الأخير الذي جاء على صيغة تفاهم أولي خلال الأسبوع الماضي بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، حول ما يسمى بـ "المنطقة الآمنة" أو "العازلة" أو حتى الممر الآمن، يعيد المهتم بالشأن السوري إلى المربع الأول، ويذكِّره بالتعاطي الخاطئ مع مسار الأحداث السورية منذ أيامها الأولى، فذلك التعاطي هو الذي قاد البلاد السورية إلى ما آلت إليه اليوم، وما تعرضت له من احتلالات.. ولعلَّ هذا الاتفاق، وإن لم ينجز كاملاً، يحمل معاني سياسية ودلالات أكثر ما تمس "السيادة السورية"، وتنال من "القرار السوري المستقل" اللذين يطيب لرأس النظام السوري، ولوزير خارجيته ونائبه، ولممثله في الأمم المتحدة الاعتداد بهما. ويوحي الاتفاق مع ما يجري في غرب سورية وشرقها، وفي جنوبها أيضاً، بأن الطبخة السورية قد نضجت، أو كأنها أشرفت على النضوج، وصار بالإمكان أن يأخذ كل متدخل أو محتل، بل كل صاحب نفوذ (يسمى الاحتلال اليوم بالنفوذ) من الدول الأربع الأكثر بروزاً: أمريكا وروسيا وإيران وتركيا حصته من الكعكة سواء أكان النفوذ سياسياً أم اقتصادياً أم جغرافياً وديموغرافياً. وبغض النظر عما إذا كان قد تقرر تسليم إدلب بريفيها الجنوبي والغربي إلى النظام أو هي قيد التسليم عبر معارك "خلبية" رغم عنفها إذ يخلي بموجبها المسلحون مواقعهم بعد أن يقدموا قرابين من المدنيين على مذبح صفقة آستانة13 على غرار ما جرى سابقاً لكل مناطق خفض التصعيد..!

يحاول النظام، كما في كل مرة، أن يظهر منتصراً على "الإرهاب" متجاهلاً ما يرتكب وما ارتكب كذلك بحق سوريا وشعبها خلال السنوات الثماني الماضية من قتل وتهجير

ويحاول النظام، كما في كل مرة، أن يظهر منتصراً على "الإرهاب" متجاهلاً ما يرتكب وما ارتكب كذلك بحق سوريا وشعبها خلال السنوات الثماني الماضية من قتل وتهجير وتدمير وخراب شامل طال الجميع عدا القصر الجمهوري ومن يقبع فيه طبعاً..!

لا شك إنه النصر الذي يرضي إسرائيل أكثر من غيرها، إذ هي صاحبة الحصة الكبرى من الكعكة، فليس ابتلاع الجولان كاملاً ما يعنيها فحسب، بل إن جلَّ همها قد تحقق، وهو تدمير سورية، لا كنظام، كما قد يتوهم بعضهم، بل كشعب ومقدرات ما يجعلها "تنام ملء جفونها عن شواردها" وبخاصة بعد أن دُمِّر العراق، وأبعدت منظمة التحرير بمساعدة حافظ الأسد وعدد من الأنظمة العربية الأخرى عن بيروت في ثمانينيات القرن الماضي..!

لقد أنضجت الولايات المتحدة الأمريكية بإدارتيها "الديمقراطية" و"الجمهورية" الحالة السورية على نار هادئة شُوِيَت فوقها أجساد الشعب السوري وأرواحهم على الآخر، لتنال أمريكا حصة الأسد من "سوريا الأسد"، فهي موجودة على ثلث المساحة السورية الأغنى اقتصادياً، وربما الأكثر أهمية استراتيجية في مرحلة التنازع المرير هذا، وفي موقع يتعلق بربط الوجود الإيراني في كل من العراق وسوريا ولبنان ما يشكل قلقاً أمريكياً وإسرائيلياً على السواء..!

 أما روسيا فقد جربت أسلحتها الفتاكة بأجساد أطفال سوريا وأمهاتهم، وباعت منها للعالم ما قيمته نحو 35 مليار دولار، وحققت أحلامها بالسباحة في المياه الدافئة على شواطئ المتوسط، ونالت كذلك ما نالته من الثروات السورية، ويكفيها اليوم أنها السيد الذي يوزع الحصص.. وكذاك فعلت إيران إذ غيرت ما غيرته في الديموغرافيا السورية تلبية لأفق ما يفكر به الولي الفقيه ويحلم، إضافة إلى عدد من الاتفاقيات الاقتصادية، ولتأصيل المليشيات التي ستبقى، إن قدِّر لها، أذرعاً طويلة قد تحتاجها..!

إنَّ هؤلاء المستفيدين جميعهم لا زالوا يقولون بوحدة الأراضي السورية، ويرفضون التقسيم، رغم ما مكّنَه كل لنفسه بحسب مطامعه، وما يرغب به، ويخطط له.. وجميعهم يذهبون إلى أنَّ الحل لن يكون إلا في جنيف، ووفق القرار 2254، ولكن الحقيقة أنَّ جنيف لن يكون أكثر من غطاء لما قد جرى التوافق عليه خارجه، وفيما بين هؤلاء الأربعة تحديداً.. ولاشك أن ملائكة إسرائيل حاضرة دائماً.. والقرار 2254 لم يشر في الأصل إلى مناطق نفوذ (في نصوص "سايكس بيكو" كان ثمة مناطق انتداب، وأخرى سميت بالنفوذ ولكن سرعان ما ضمتها فرنسا إلى الانتداب وتصرفت بها لاحقاً خارج إطار الاتفاقية). ومهما يكن من أمر التسميات، فقد تبدلت الظروف اليوم، واستبدل بالانتداب أو حتى بالاستعمار، كما أشرت، ما يسمى اليوم مناطق نفوذ التي قد تفي بالغرض لهذه الدولة أو تلك، ووفق ما تطمح إليه، وما يتوافق مع مصالحها المحددة..

أشير في البداية إلى أنَّ المنطقة الآمنة، بدلالاتها، أعادت المهتم بالشأن السوري إلى المربع الأول.. يعني إلى التوجيه الخاطئ الذي حكم مسار الحدث السوري منذ الأيام الأولى لبدئه. إذ غاب القرار الوطني من جانب النظام أولاً.. وما يعنيه القرار الوطني هو عدم التعاطي مع الحدث كـ "دولة" وشعب بل كمزرعة وعبيد! ثم لتتلوه المعارضة، كوجه آخر له، رغم شعارتها وأحقيتها، بخطا خلف ما كان النظام يطمح إليه، سواء لجهة التسليح، والوقوع في أسر القوى المتطرفة، أم لجهة الارتماء في أحضان دول أجنبية، وإقليمية، وعربية أيضاً، ما جعلها ترتهن، في النهاية، لقرارات تلك الدول ولمصالحها.. وكلا الأمرين كان قد شكل مقتلة للمعارضة التي افتقدت أهم عناصر قوتها، وهو التظاهر السلمي، والتمسك بشعار الحرية الرئيس، وتحميل الدم السوري للنظام الذي هدره إرهاباً وتوحشاً الأمر الذي أزعج الكثير من السوريين من الذين لم يكونوا قد قالوا كلمتهم بعد، وهم كثر إذ كانوا على حذر أو تردد.. وبالتالي فإن وقوفهم إلى جانب المحتجين يعد كسباً كبيراً وتغييراً في موازين القوى إضافة إلى كسب الرأي العام العربي والإقليمي والدولي أيضاً ما يشكل ثقلاً حقيقياً على النظام يصعب عليه تحمّله في ظلِّ ضغط وسائل الإعلام التي لم تكن على هذا النحو من النمو والانتشار في أوائل ثمانينيات القرن الماضي أيام ارتكاب مجزرة حماة.. الأمر الذي كان يمكن أن يدفعه إلى القبول بحلول وسط على الأقل وإرغامه على القيام بإصلاحات كان من شأنها أن تغيِّر جوهره وبالتالي تفسح في المجال لتغيير المناخ العام في سوريا..!

أشير في البداية إلى أنَّ المنطقة الآمنة، بدلالاتها، أعادت المهتم بالشأن السوري إلى المربع الأول.. يعني إلى التوجيه الخاطئ الذي حكم مسار الحدث السوري منذ الأيام الأولى لبدئه

قد تكون تجربة السودان مثالاً حياً وإن أتت بعد عدة سنوات ومستفيدة، ربما، من التجربة السورية ذاتها، إضافة إلى وعي الشارع السوداني الذي قادته قوى منظمة، قد مكنت السودانيين من إرغام العسكر على توقيع اتفاق قد لا يشبع توق السودانيين إلى الحرية، ولكنه يَعِد، ربما، بما هو أفضل، وبخاصة أن العنف الذي استخدمه العسكر مازال بيد قوى الحرية والتغيير حجة ووسيلة ضغط قوية ترفع في وجه أكثر أجنحة العسكر عنفاً وطمعاً بالسلطة واعتماداً على جهات خارجية).

اليوم، وسوريا مفتوحة على المجهول، ومهددة بفقدان هويتها، ويعاني شعبها الأمرين داخلاً وخارجاً، ثمة سؤال يطرح نفسه، أما من صرخة سورية تأتي من هنا أو من هناك صرخة تمتلك قراراً ما، أو رأيا ما يعلن بجرأة ورجولة داعياً إلى حل سوري - سوري يضع حداً لهذه الأوجاع، ولتلك الأخطار، ويوقف هذا النزيف الرهيب.. حتى وإن كان الرأي موقفاً أخلاقياً يعترف بخطأ ما، ويكفِّر عنه.. ثم من يدري لعله رمية أخيرة تفعل فعلاً ما..! أم إن "السيف سبق العذل"، والأمور ذاهبة إلى أقدارها..؟!

أعرف أنَّ الفكرة الأخيرة حلم مستحيل، وهي إلى الوهم أقرب، ولكن من يملك غير ذلك..؟!