المعتقلون السوريون (قضية وطنية) لماذا، وكيف؟

2018.12.14 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لعل أي حديث تستدعيه قضية المعتقلين السوريين، يستدعي بداهةً جملة من الأفكار والمشاعر تتمحور بمجملها حول عمق المعاناة الإنسانية ليس للمعتقلين بشخوصهم فحسب، بل لأمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وذويهم جميعاً، إلّا أن هذه الآلام الكبيرة، والفجائع الفادحة التي لم يخل منها، سواء بطريقة مباشرة، أو من خلال تداعياتها غير المباشرة، أي بيت سوري، لم تعدْ – بالنسبة إلى السوريين -  إحدى المآسي البشرية التي تحلّ بالشعوب فحسب، بل باتت إحدى القضايا الكبرى، بل القضية الوطنية الأكثر أهمية في الوقت الحاضر، وذلك لجملة من الأسباب:

أولاً – لم تكن قضية الاعتقال ظاهرة طارئة على نظام آل الأسد في سوريا، بل هي ظاهرة ملازمة لنظام الأسد منذ اغتصابه للسلطة عام 1970، ولعل المجازر المتتالية منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى هذه اللحظة كافيةٌ للقول: إن ثمة جريمةً مستمرة بحق السوريين، وإن الفاعل فيها لم يكن مجهولاً، بل ما يزال يمارس جريمته على مرأى ومسمع العالم أجمع.

ثانياً – لم تكن مسألة الاعتقال – في سوريا – مجرّد إجراء عقابي، أو أسلوب رادع يلجأ إليه النظام لردع خصومه فحسب، بل إن البنية الأمنية لنظام الأسد تتقوّم في الأساس على ممارسة البطش، وسحق الآخر المختلف أو الخصم، وهذا ما جعل مسألة الاعتقال والتغييب والتصفيات الجسدية داخل السجون، هي الحوامل الحقيقية التي منحت نظام الأسد ديمومته في السلطة طيلة عقود من الزمن، فضلاً عن أن هذه الحوامل الأمنية ذاتها هي البرهان الأنصع على منهجية الجريمة ودورها الوظيفي والنوعي في الحفاظ على السلطة.

ثالثاً – ولعلّ الجانب الأهم في ملازمة صفة الإجرام الممنهج لنظام الأسد، هو الجهر بالجريمة وعدم إخفائها أو نكرانها، ولعل قيام

ما جعل نظام الأسد يتمادى في الإجرام هو غياب الرادع، والإفلات المتكرر من العقاب، ذلك أن صمت المجتمع الدولي من جهة، واكتفاءه بالمواقف التي لا تتعدّى بيانات الإدانة والاستنكار الجبان

سلطات النظام بتوزيع قوائم تتضمن أسماء الآلاف من المعتقلين إلى دوائر السجل المدني في المدن والبلدات السورية، باعتبارهم في عداد الموتى، إضافة إلى تأكيدات وسائل إعلام النظام نفسه على أن جميع المختفين في السجون هم في عداد الأموات، لهو اعتراف كامل بالجريمة، بل يزيدها إجراماً إخفاء النظام لجثامين الضحايا، الأمر الذي يجعلنا نصفها بالجريمة المركّبة.

ومما هو غنيٌّ عن البيان، أن ما جعل نظام الأسد يتمادى في الإجرام هو غياب الرادع، والإفلات المتكرر من العقاب، ذلك أن صمت المجتمع الدولي من جهة، واكتفاءه بالمواقف التي لا تتعدّى بيانات الإدانة والاستنكار الجبان من جهة أخرى، حيال جميع ما مارسه حاكم دمشق بحق المواطنين السوريين، ابتداء من الاعتقال التعسفي طويل الأمد دون محاكمة، مروراً بالتصفيات الجسدية الجماعية داخل السجون، ووصولاً إلى الإبادة الجماعية بالسلاح الكيمياوي والبراميل المتفجرة، بل إن غياب النواظم الإنسانية والقيمية، وكذلك غياب المصداقية الأخلاقية والفعلية لجميع الشعارات العالمية حول حقوق الإنسان، قد اعطى، وما زال يعطي نظام الأسد المزيد من الطمأنينة، على المضي في استباحة كرامة السوريين وحرمة دمائهم.

إن الإحاطة الدقيقة، والفهم المعمّق لظاهرة الإجرام الأسدي، توجب علينا – كسوريين – تجاوز الفهم النمطي، والآليات المعتادة في تعاطينا مع قضية الاعتقال السياسي، وأعني بذلك، أولاً: تجاوز اختزال قضية المعتقلين بالجانب الإنساني فقط، على الرغم من أهميته، بل يجب النظر إليها على أنها من القضايا الوطنية المحورية، وبناء عليه، فلا يمكن اعتبارها مجرد ملف إنساني ملحق بالعملية السياسية، يمكن إخضاعه لمبدأ الصفقات بين الأطراف ذات المصالح، (وهذا ما تحاول روسيا تعزيزه من خلال معالجة قضية المعتقلين في مسار أستانا)، وثانياً: علينا الخروج من اختزال قضية المعتقلين بسرد المظلوميات والحديث عن معاناتنا وعذاباتنا كأفراد، بل علينا تحويل هذه المعاناة والمواجع إلى قضية، نناضل من أجلها جميعاً، ليس بالدموع والاسترسال

الانتقال بقضية المعتقلين من طور المساعي والجهود الفردية، إلى طور العمل الجمعي، يوجب – بداهةً – العمل المؤسَّس على برامج وخطط مدروسة

بالشكوى، بل بالعمل الجاد والدؤوب، على المستويات كافة، السياسية والقانونية والإعلامية، ذلك أن إنصاف الضحايا والمظلومين، والحيلولة دون إفلات المجرم من المساءلة والحساب، ما هو إلّا نصرة للحق من منظوره المطلق من جهة، وهو – كذلك - انتزاع لقضية المعتقلين من الأطر الشخصية والفردية الخاصة، ووضْعها في سياقها الكوني الإنساني العام من جهة أخرى. وثالثاً: علينا عدم الركون لمبادراتنا العفوية، وردود الأفعال الارتجالية، واللجوء إلى الأفكار الانتقائية التي لا تخدم – في غالب الأحيان – سوى الرغبات الذاتية، ذلك أن الانتقال بقضية المعتقلين من طور المساعي والجهود الفردية، إلى طور العمل الجمعي، يوجب – بداهةً – العمل المؤسَّس على برامج وخطط مدروسة، وكذلك منبثق من كيانات مؤسساتية لا تقل تنظيماً وإدارةً عن الكيانات الاعتبارية الأخرى. ورابعاً: يوجب علينا البعد القيمي والأخلاقي لقضية المعتقلين، أن تكون هذه القضية مُحصّنةً من العبث الذي طال الكثير من جوانبها، من خلال استغلال بعض المنظمات لمعاناة المعتقلين، واستثمارها للتكسّب، واستجلاب الدعم المالي، تحت مسمّيات فيها الكثير من الزيف والخداع.

 قضية المعتقلين السوريين تستمد معاني عدالتها من عدالة قضية السوريين في سعيهم للتحرر من العبودية، وحقهم المشروع في بناء دولة الحقوق والعدالة والقانون، وتحرير هذه القضية، وانتزاعها من أيدي السماسرة الإقليميين والدوليين والمحليين، وإعادتها إلى سياقها الوطني الصحيح، هو ما يعصمها من الاندثار، ويجعلها لا تسقط بالتقادم.