المصافقة المشبوهة والبهلوانية الروسية

2019.06.10 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الحديث عن صفقة أميركية - روسية جاء إثر الاعلان عن لقاء ثلاثي في القدس لرؤساء مكاتب الأمن القومي الروسي والأميركي والإسرائيلي؛ حيث خرج البعض باستنتاجات تفيد بأن صفقة أميركية - روسية ستتمخض عن اللقاء تساهم بإخراج إيران من سوريا، حتى قبل بدء التفاوض الأميركي مع إيران. وهذا كي يتم، يستلزم دعم الأسد؛ ومن هنا كان الاستخلاص بأن ثمن ذلك التعاون، سيكون بقاءه في السلطة. وملحق الاستنتاج يقول إنه بخروج إيران، تكون أميركا قد قطعت أحد أذرعها؛ وفي الوقت ذاته تكون قد سحبت ورقة من اليد الروسية.

في صحيفة /ذا ناشونال - The National/، سياسي أميركي رفيع ينفي بالمطلق ما نقلته صحيفة عربية "مرموقة" بأن أميركا وروسيا تتفقان على صفقة يتم بموجبها الإبقاء على الأسد مقابل المساهمة بإخراج إيران وميليشياتها من سوريا. بعد ذلك بيومين أعاد السيد "جيمس جيفري"، المبعوث الأميركي للقضية السورية، في مقابلة مع صحيفة "حريت" التركية النفي ذاته بوضوح أكثر قائلاً ما فحواه إن استراتيجية أميركا لم تتغيّر تجاه تطبيق القرار الدولي 2254, وتجاه عملية انتقال سياسي حقيقية لا مكان فيها للأسد بعد أن ارتكب ما ارتكب خلال ثماني سنوات؛ وإن أميركا لا تزال تدعو إلى سقوطه؛ حيث إنها يستحيل أن تعترف به قائداً لسوريا بعد كل هذا.

تربعت أميركا على عرش القوة في العالم؛ ورسّخت قاعدة سياسية ثابتة عميقة غير معلنة بأن لا أحد يمكن أن يرتقي من حيث القوة إلى مصافيها ليكون شريكاً

وبالعودة إلى قراءات الاجتماع المزمع، يرى آخرون بأنه لن يكون إلا لتثبيت الثابت المتمثل بأن لا شركاء لأميركا رغم كثافة حديثها عن "شركاء". وفِي هذا السياق يمكن القول إنه لو كانت الولايات المتحدة راغبة فعلاً بصفقة على هذه الطريقة، فهي أذكى من أن تجريها بهذا الشكل العلني الفاضح. من جانب آخر هي تدرك مدى التجذر الإيراني في سوريا؛ فهو يشبه السرطان؛ إذا ما تم اجتثاثه، فسيأتي على الجسد برمته. ومن جانب ثالث، لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تصافق روسيا في الساحة السورية. فَلَو كان ذلك ليتم، لحدث منذ زمن. أميركا تعرف تماما حجم الملفات التي يحملها بوتين على أكتافه. والثمن ربما أغلى من سوريا التي يتم شواؤها على نار باردة أميركياً ساخنة روسياً تستنزف روسيا وإيران معاً.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي كانت أميركا الرابح الأساس فيها، تربعت أميركا على عرش القوة في العالم؛ ورسّخت قاعدة سياسية ثابتة عميقة غير معلنة بأن لا أحد يمكن أن يرتقي من حيث القوة إلى مصافيها ليكون شريكاً (نتحدث عن دولة ميزانيتها 20 ضعف ميزانية روسيا؛ دولة تمتلك ربع ذهب العالم؛ دولة بيدها نظام "SWIFT" وحركة المال العالمي، والإعلام، والتقانات و و و) دولة، الآخرون بالنسبة لها ليسوا أكثر من أدوات أو “أجراء لا شركاء"؛ هذا، رغم كلامها الذي لا ينتهي عن "شركائها". فمن غير الممكن أن ترى في روسيا إلا منفذاً لتلك الاستراتيجية الأميركية التي تريد أن تكون المتحكم الأول والأوحد في المصير السوري.

في سوريا ومن خلال سوريا، تضبط أميركا الإيقاع الإسرائيلي في المنطقة؛ من سوريا، تتحكم بمسار الغاز وقضايا اقتصادية أخرى؛ عبر سوريا، تضبط إيقاع تنفس الخليج؛ ومن خلالها، ينتظم إيقاع العلاقة العربية والإسلامية بأوربا. عبرها، يتم تنظيم حركة تركيا تجاه العالم العربي والإسلامي. ألم يُقل يوماً، إن مَن يسيطر على سوريا، يسيطر على الشرق الأوسط؛ ومن له الكلمة الفصل في سوريا يحدد مسار ومصير الشرق الأوسط؟! فكيف يمكن أن تسمح أميركا لروسيا أن تكون شريكها في تحديد هكذا بقعة استراتيجية؟!

أحد إشارات ذلك نراها في التصريحات الروسية، التي تتحدث عن عرقلة الأميركيين لحل في سوريا؛ وفحوى الشكوى الروسية الخفي يكمن بأن الحل لن يكون على تفصيل مصالحهم، ولا هو حل الشركاء؛ بل حل يعرف فيه كل جانب وزنه. وما يدل على الوزن الروسي الخفيف، هو النشوة التي تنتاب الروس إثر أي تلميح إيجابي تجاههم من قبل أميركا؟!  صاحب "المرتبة الأدنى من شريك"، أي "روسيا" تم تكليفها بأمرين بخصوص القضية السورية: "القتل والتدمير" و"استخدام الفيتو". الأول مشهود لروسيا بممارسته بمهارة - وغروزني سابقة معروفة- فمن ابتل بالماء، لا يضيره المطر. وفي سوريا ذلك يتم؛ وبظهره مساهمة أميركا بحرمان المقاومة السورية من أي وسيلة دفاع جوية. وفي الثاني تدرك روسيا أن استخدام حق النقض "الفيتو"، لمنع أو تعطيل قرار دولي يحاسب مرتكبي جرائم الحرب، ينسف مصداقية وأخلاق مستخدم هذا الحق. روسيا استخدمته أكثر من 12 مرة في القضية السورية- معرضّة نفسها لانتقادات لا حصر لها، وكاسبة عداء الشعب السوري المظلوم. وفي مهمة "الفيتو" قال البعض بأنه لو لم تقم روسيا بذلك، لكانت أميركا ذاتها استخدمته. والأمر هكذا، ومع كل تلك التضحية؛ ولا تزال أميركا لم تُرَفّعْ أو تُرَقِّ روسيا الاتحادية الى مرتبة شريك!! قد يستغرب المرء هذه المقاربة الأخيرة حول الفيتو؛ فهي الفرصة الذهبية لإحراج الولايات المتحدة؛ ولكنها لم تجلب النتيجة المتوخاة، ببساطة لأن الجبروت الأميركي ما تعوّد الاكتراث لأي حرج عالمي. فهي ذاتها التي نقلت سفارتها الى القدس متحدّية خمس سكان كوكبنا ودون أي اكتراث، ودعست القانون الدولي، عندما وقّعت الموافقة على ضم الجولان السوري لإسرائيل، وكأنها تهبها قطعة من كاليفورنيا.

في سوريا ومن خلال سوريا، تضبط أميركا الإيقاع الإسرائيلي في المنطقة؛ من سوريا، تتحكم بمسار الغاز وقضايا اقتصادية أخرى؛ عبر سوريا، تضبط إيقاع تنفس الخليج

فهل هذه الدولة السطوة في عالمنا يمكن أن تتصافق مع روسيا على قفاز من الدرجة الممتازة في بلد بهذه الأهمية؟! نظام الأسد خرج من لبنان باتصال هاتفي أميركي؛ وكان بإمكان أميركا أن تنهي مأساة السوريين بمكالمة مشابهة؛ لكنه في آذار من عام 2011 كانت أميركا أكثر من أي جهة أخرى قد استشعرت أن العالم سيتغيّر، إذا ما تغيّر وضع سوريا على غير ما ترى أو تشتهي. على كلٍ لحظة التغيّر هذه آتية؛ وربما تكون أزفت.. أميركا تقول الآن إنها ستطبق القرار الدولي 2254 وبوابته الأولى "اللجنة الدستورية"؛ والتي سيتبعها انتخابات، بإشراف الأمم المتحدة؛ ولن يكون لا في الدستور الجديد ولا عبر تصميم الانتخابات مكان للمنظومة الأسدية.

الأجدر بروسيا أن تتوقف عن سياسة التكتكة وتنتقل إلى رؤية استراتيجية تحافظ من خلالها على بعض مصالحها؛ ليس عبر التمسك بمن يقوم بدور القفاز ويؤدي مهمة معينة. لقد أصبح هذا القفاز عبئاً حتى على من يحرص عليه برموش عيونه؛ وهذا الذي يحرص عليه في طريقه للخلاص من أوزاره؛ فلماذا هذه البهلوانية الروسية التي بدأت تستنزف روسيا ذاتها؟! لماذا لا تكون السبّاقة الى الدخول بالخلاص السوري المرسوم؟! خروج إيران غير مطلوب من الاسد. وخروج الأسد غير مطلوب من إيران. ليست موافقة الأسد، هي التي تخرج إيران. أميركا تعرف أنه مع نهاية منظومة الأسد تخرج إيران؛ والعكس ليس صحيحاً. مرة أخرى علّ روسيا؛ ولو لمرة واحدة تكون ضمن الإيقاع، لا متأخرة أكثر من خطوة عما يُحاك ويُدبَّر.