المخيمات أصل الحكايات

2018.09.20 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حاول الناشطون الفلسطينيون داخل المخيمات في سورية –خاصة اليرموك- تسليط الضوء على ما يجري من مذابح بحق مخيماتهم طوال السنوات السبع الماضية بكل ما يمتلكون من أدوات، وأطلقوا في هذا الصدد العديد من الحملات الإعلامية حملت إحداها شعار "المخيمات أصل الحكايات" كتعبير رمزي عن ما تحمله تلك الأمكنة المزدحمة بالحياة والأحلام من معان سياسية ثقافية لأحد أعدل القضايا الوطنية في العصر الحديث.

يتفق معظم من عايش التجربة خلال السنوات الماضية من أبناء المخيمات في سورية أن محاولاتهم جميعًا باءت بالفشل، وذلك لأسباب عديدة منها ما يتعلق بطبيعة الصراع في البلاد والتداخلات الدولية الإقليمية الكبيرة التي رسمت الكثير من مساراته ونتائجه، وأخرى ترتبط بطبيعة التحالفات الفلسطينية الداخلية وارتباطها ببعض دول الإقليم بما فرضه هذا الواقع من أدوار على العديد من الفصائل الكبرى وهو ما أدى بشكل أو بآخر إلى النتائج المريرة المحيطة بالمخيمات حاليًا، بالإضافة إلى أن الخارطة السياسية الفلسطينية لم تكتف فقط بالصمت وتجاهل ما يحدث بل اختارت تبرير دوافع القتلة.

بالتالي قد يكون من الظلم تحميل مسؤولية ما حصل لشباب المخيمات الذين اختاروا الوقوف إلى جانب الحناجر الصادحة بشعارات الحرية في سورية، ومن غير المنصف أيضًا التسليم بأن النتائج التي وصلت إليها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين كانت بفعل قراءتهم الخاطئة للواقع والمعادلات السياسية المحيطة بالحدث السوري، وربما الأكثر موضوعية يتمثل في أن الصراع المتواصل منذ ما يقارب الثمان سنوات استثمرته القوى الكبرى عبر أدواتها الإقليمية والمحلية ليتحول إلى مدخل بعيد رسم ملامح المنطقة بأكملها وكان لا بد أن تمر هذه المشاريع عبر القضية الفلسطينية.

دفع الفلسطينيون –كما السوريون- ثمنًا فادحًا نتيجة موقفهم الصريح ضد النظام السوري

دفع الفلسطينيون –كما السوريون- ثمنًا فادحًا نتيجة موقفهم الصريح ضد النظام السوري وتشير إحصاءات مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية إلى أن 3874 فلسطينيًا قُتل على مدار الأعوام الماضية منهم نحو 200 شخص مات جوعًا أو لنقص الرعاية الطبية في مخيم اليرموك، في حين يقبع داخل سجون الأسد أكثر من 12 ألف معتقل فلسطيني قضى منهم 500 شخص على الأقل تحت التعذيب، إلى جانب دمار معظم المخيمات في البلاد الأمر الذي يعطي العديد من المؤشرات أن ما حصل يتجاوز مسألة الانتقام وتصفية الحسابات إلى سياسة ممنهجة اتبعها النظام في دمشق لإعادة تعويم شرعيته مجددًا عبر جماجم الفلسطينيين كوكيل حصري لإنهاء وجودهم في المنطقة.

اليوم يجمع غالبية فلسطينيي سورية أن الفصل الأخير من الرواية والذي نضجت ملامحه خلال سنين الثورة وما تشظت إليه من صراعات مفتوحة على مستوى شرق المتوسط لم يكن سوى حلقة جديدة في سيناريو قديم يحفظونه عن ظهر ألم، ومفاده أن عروش العروبة لم تستطع أن تتعايش مع وجودهم واعتبرتهم منذ اليوم الأول عبئًا ثقيلًا على تفاهمات "طريق الحرير" سياسيًا واقتصاديًا، فتجسدت أولى المشاهد باللحم الحي في أيلول من العام 1970 في الأردن، ومن ثم استطالت على مدار ثمانينات وحتى بداية تسعينات القرن الماضي.

التوصيف السابق لا يستند إلى مخزون عاطفي يحاول إعادة إنتاج خطاب الضحية مرة أخرى بل يرتكز إلى العديد من المعطيات والوقائع بدءًا بالإجراءات الأميركية الأخيرة الرامية صراحة إلى طي ملف اللاجئين الفلسطينيين بشكل نهائي، مرورًا بما سربه بعض مسؤولي الفصائل الفلسطينية في لبنان عن مشاريع لتوزيع فلسطينيي الشتات على كندا وأستراليا برعاية  وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وهو ما نفته الأخيرة بشكل قاطع مؤكدة أنها مستمرة بتقديم خدماتها للمخيمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية.

نفي المنظمة الدولية لا يعني بأي حال من الأحوال بأن مثل هذه التوجهات ليست واقعية، خاصةً وأن مشاريع ترحيل وتوطين اللاجئين الفلسطينيين قديمة وتعود إلى محادثات مدريد عام 1991، بالإضافة إلى أن عودة الحديث عن هذه التوجهات يتزامن مع معلومات غير مؤكدة تفيد بأن المملكة المتحدة بدأت بنقل ما تبقى من العائلات الفلسطينية في العراق إلى أراضيها، إلى جانب رفض النظام السوري عودة أي من الفلسطينيين السوريين المتواجدين في لبنان إلى الأراضي السورية وكذلك سحب المملكة العربية السعودية اعترافها بجواز السفر الأردني المؤقت الممنوح للفلسطينيين الأردنيين.

"المخيمات أصل الحكايات" كانت نبوءة مبكرة حاولت استجماع تفاصيل هشة عن الهوية الوطنية

"المخيمات أصل الحكايات" كانت نبوءة مبكرة حاولت استجماع تفاصيل هشة عن الهوية الوطنية المستقاة من رمزية الفدائيين ومتراس يحرس أحلام الخيام علها تنجح في قطع الطريق على مشهد حي اختصره في أحد أزقة اليرموك أب يحمل طفلته بين يديه وهو يناجي الله أن يقبض روحها كي تستريح من ألمها ويرتاح هو من عجزه أمام موتها المؤجل، تلك العبارة لم تكن مجرد شعار أو صرخة لليائسين بل رصاصتهم الأخيرة للدفاع عن معنى المخيم بما يختزنه من تضاريس الوطن المشتهى بدءًا بنسوة يرتدين فلسطين ثوبًا بملامح آدمية وانتهاءً برفات الشهداء تحرسها زغاريد الأمهات وما بينهما من أسرار الحقيقة تتكفل الآن أدوات العروبة بطمس معالمها تحت ركام المخيمات.

بخسارة المخيم يقف من نجا على شاطئ الخذلان يتأمل الدمار العظيم ويدفن خلفه ما تبقى من طموحاته البسيطة بنافذة لا تطل على مذبحة، يواري في غبار الواقع ذكريات ما يزيد على سبعين عاما عايشها بين أزقة الخيام بأحلام شاهقة عن طريق العودة وفي حقيقتها جسدت أوهامًا أهدته نكبةً جديدة وممرًا ضيقًا للعبور مجددًا إلى المنافي على أشلاء من رحلوا، فيمزق كل ما حفظه عن نفاق الانتماء ويلفظ ما التصق بحواف الذاكرة من كلمات الأغاني الوطنية ويدرك أنه كما الهندي الأحمر لا يسعه الآن سوى أن يطفئ ناره ويتوارى خلف حدود الحداثة مجردًا من كل شيء باستثناء تعويذة تختصر سر عكا القديم.

"هنا انتصر الغرباء على الملح على قشرة القمح فينا.. هنا انتحر الصقر غمًا ولم يبق شيء لنا في الزمان الجديد، فلتمهلوا الأرض كي تبوح بالحقيقة ولا تطلبوا معاهدة للسلام مع الميتين لم يبق منهم أحد يبشركم بالسلام" ربما تبقى هذه الكلمات لدرويش بما تحمله من أضداد واحتمالات الأكثر قدرةً على توثيق مشاهد التجربة على مسرح الواقع السياسي والإنساني، والأقرب إلى استنطاق اللحظة واستقراء ما يمكن أن يحمله المستقبل من ردود أفعال فلسطينيًا، سيما في ظل حالة الاستعصاء الوطني والعجز عن صناعة رؤىً تساعد في تجاوز أسباب ومحطات الفاجعة ومن ثم تنجح في منح الفلسطيني منجاة من متاهات العدم التي تحاصر كل التفاصيل حوله وهو يحمل سؤاله كيف نشفى بعد هذا الخراب؟.