"المؤامرة الكونية" من فنزويلا إلى سوريا 

2019.01.26 | 23:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يحدث أن بلداً يتعرض لصدمة تاريخية هائلة، ضربة ظالمة ومدمرة، طغياناً أو احتلالاً أو استعماراً أو حرباً كارثية. ما من شعب إلا وتعرض لهكذا محنة، لنقل: إنها سيرة بشرية ولا تخلو منها أحوال العالم، ماضياً وحاضراً.

شرط النجاة، ومبتدأ التعافي من الكارثة، هو تجاوز وعي الصدمة، العلاج من هذه "التروما". أما وأن تتحول الصدمة إلى عقيدة وحجر الأساس للهوية، فمعناه أن هذه الأمة ستحيا في مرض. أمة عليلة تعتنق التعاسة.

ما زالت اليابان نموذجاً بالغ المثالية، في كيفية تجاوز أكثر من "تروما" في زمن وجيز بالقياس إلى تاريخ الأمة اليابانية، فابتداء من العام 1860، استوعبت هذه الأمة المنعزلة صدمة "الحداثة"، الكلية الغرابة عن المجتمع الموغل في التقاليد. وفي غضون خمسة عقود تحولت من دولة إقطاعيات زراعية إلى دولة عظمى. استيقاظها المباغت على تخلفها أمام التفوق الهائل للحضارة الغربية آنذاك، لم يأخذها إلى رد فعل الرفض والتمنع والخوف. وعلى الرغم من نشوء دعوات "أصولية" مقاومة لـ"الغزو" الغربي، إلا أن خيار الأمة كان الانخراط بمتطلبات ملاقاة العصر.

ابتداء من لحظة الهزيمة، كان ما يسمى "العام صفر"، لحظة إعادة التأسيس والبناء

الصدمة الأعنف كانت ما بين 1941 و1945، حين خاضت الإمبراطورية اليابانية الحرب المهولة المتوجة بقنبلتين ذريتين. إن ملايين القتلى والدمار اللامحدود الذي أصابها، كان يمكن إبقاء اليابان دولة "مهزومة" وفاشلة ومرضوضة إلى الأبد. كان يمكن لاستسلامها أن يبقيها مقيمة في اليأس والعار وانعدام الثقة إلى ما لا نهاية. أو أن تصير مثلاً دولة يتنازعها التعصب الديني وكراهية الأجانب. ما حدث هو العكس تماماً. فابتداء من لحظة الهزيمة، كان ما يسمى "العام صفر"، لحظة إعادة التأسيس والبناء.

في وقت أقرب، عانت فيتنام حرباً استقلالية ضد الاستعمار الفرنسي، ثم ضد وريثه الاحتلال الأميركي، وضد تقسيمها إلى دولتين شمالية وجنوبية (حرب أهلية ضمن حرب تحرر وطني)، على امتداد ثلاثة عقود. بلد فقير ما قبل صناعي، قليل الموارد، يعاني القسم الأكبر من سكانه من الفقر وسوء التغذية. بلد الأرياف المتواضعة والغابات الكثيفة التي تحتل أكثر من ثلثي مساحته. طوال المواجهة مع دولتين عظيمتين تعرض الشعب الفيتنامي إلى شبه إبادة. وعلى الرغم من ذلك، بل وعلى الرغم من سوء الخيار الشيوعي لدولة الاستقلال، وما جره من حروب إقليمية، والمزيد من الخراب الاقتصادي والاضطهاد، وفرار مئات الآلاف في أواخر السبعينات عبر البحر.. سرعان ما اعتنقت فيتنام عقيدة العلاج من "تروما" التاريخ، والخروج من الماضي. وهي اليوم، دولة متصالحة مع نفسها ومع عزتها القومية. فواحدة من أفضل العلاقات قائمة ما بينها وبين الولايات المتحدة وفرنسا، أعداء الأمس، عدا عن علاقتها مع جيرانها الآسيويين. هذا الطريق أفضى بفيتنام إلى ازدهار واستقرار غير مسبوقين. 

تجربة دول أميركا اللاتينية، المتعرجة والمثقلة بالمآسي، والمتقلبة ما بين أنظمة الطغيان والديكتاتوريات والحروب الأهلية وتجارب الدمقرطة التي غالباً ما يحفّ بها استشراء الفساد، وترافقها باستمرار سياسات أميركية تتراوح بين النهب واللصوصية والتآمر الاقتصادي، وتدبير الانقلابات، بل واصطناع حروب عصابات، وصولاً إلى التدخل العسكري.. أفضت كلها إلى صدمات تاريخية عميقة في وجدان هذه الشعوب.

منذ أواخر الثمانينات، بدأت دول مثل تشيلي والأرجنتين والبرازيل والأوروغواي.. وصولاً إلى المكسيك ، بمسار تجاوز "تروما" التاريخ، والذاكرة المشبعة بالدم والظلم والقسوة. كان التخلص من عبء المظالم واللاعدالة والثورات المجهضة وجرائم الديكتاتوريات المدعومة من الولايات المتحدة، عملاً شاقاً ومؤلماً ومتعرجاً. فالشفاء من الجروح الثخينة، والطموح نحو الديموقراطية والإصلاح الاقتصادي وفرض علاقة صحية مع أميركا الشمالية، بل بين بعضها البعض كدول متجاورة، والبحث عن التعاون والشراكة، لم يكن كل هذا سهلاً. لكن نظرة خاطفة إلى الوراء، تكفي لملاحظة الفروقات الهائلة في أحوال هذه البلدان ما بين السبعينات مثلاً ويومنا هذا.

على المقلب الآخر، سنرى دولاً على شاكلة كوريا الشمالية، حيث تحولت "تروما" الاستعمار الياباني ومن بعده الحرب الأميركية، إلى ما يشبه الدين السياسي. لا شيء في هذا البلد، سياسة ونظاماً وعيشاً، سوى معايشة هذه التروما ورفعها إلى مصاف الحقيقة الوحيدة للعالم. الإقامة في وعي الحرب الأبدية، بوصفها أسلوب حياة أوحد، بل والإقامة في التاريخ "الأسطوري"، أي خارج الزمن ورفض جريانه وتحوله وانقلابه، أحال هذا البلد إلى مجرد كابوس مستمر. بلد واقع في شر "رهاب" الخارج – العدو. هي تروما قصوى إلى حد الغيبوبة (الكوما).

أيضاً، كما كوريا سلالة كيم إيل سونغ، اختارت كوبا كاسترو الإقامة في لحظة الثورة التي لا تنتهي. فتحولت الجزيرة الكاريبية الأهم إلى كبسولة زمنية، يتآكلها الاهتراء، فيما الكاستروية تستأنف كل صباح "حربها على الاستعمار" من غير جدوى ولا نهاية. وها هي اليوم، تستجدي أفواج السياح الأميركيين وعملتهم الخضراء.. تروما الديكتاتورية، لم تنتج سوى ديكتاتورية أخرى وفقر أشد.

تتعمد حكومات وأنظمة، أن تبقى الصدمة القومية حية، وتنعشها وتحييها كأيديولوجيا تضمن "شرعيتها"

تتعمد حكومات وأنظمة، أن تبقى الصدمة القومية حية، وتنعشها وتحييها كأيديولوجيا تضمن "شرعيتها". إن أول فعل عمد إليه الخميني أثناء تأسيسه للنظام الجديد بعد انتصار الثورة عام 1979، هو توليف أيديولوجيا قائمة على "تروما" الانقلاب على حكومة محمد مصدق عام 1953، والمدبر من قبل وكالة المخابرات الأميركية، أولاً، وعلى تبني خطاب محاربة الاستعمار بوصفه العصبية التي تبنى عليها الهوية الوطنية، ثانياً، ثم تلقف الحرب التي شنها صدام حسين ثالثاً، بوصفها المعبر – المطهر لتصدير الثورة.. وتغيير العالم، الموبوء بالكفر والمظالم والاستكبار. تروما الخميني عميقة جداً، فهي قائمة على جرح غائر إزاء الحداثة وإزاء مظلومية شيعية تترفع عن التاريخ نفسه وعن الزمن كله.

منذ ذلك الوقت، والنظام الإيراني "ينتج" (بالمعنى الصناعي) مفاعيل هذه الأيديولوجيا ذات البعد الديني، والتي لا تتوقف عن توصيف العالم عدواناً مستمراً وشروراً وحرباً دائمة. هكذا، تنذر إيران نفسها لـ"مهمة" مقدسة واحدة: الصواريخ والمشاريع النووية والميليشيات المحاربة.. بينما البؤس، الذي يتجه لأن يصير على صورة كوريا الشمالية، هو الأفق الوحيد للشعب الإيراني. التروما هنا عدوانية، ويصل أذاها إلى كامل الشرق الأوسط.

المثال الأخير الراهن هي فنزويلا، وليست صدفة أن يكون حلفاء نظام هوغو تشافيز، ومن بعده نيكولاس مادورو، هم إيران وحزب الله (وبشار الأسد.. وقناة "الميادين"). فالبلاد التي عاكست سير دول أميركا اللاتينية، واتجهت إلى ديكتاتورية قائمة على يسار شعبوي، هو على الأصح أقرب إلى نمط أحمدي نجاد أكثر منه النمط الكاستروي، تعاني من تروما تاريخية منذ فشل مشروع سيمون بوليفار وثورته. كما أن مفارقة الثروات التي تختزنها البلاد والفقر العميم واللاعدالة الاجتماعية، جعل فنزويلا مرضوضة باستمرار، بوعي قائم على الصدمة والجرح التاريخيين. لذا، بقيت فنزويلا يميناً ويساراً تنتج سياسة ماضوية. يمين فاشي ومحافظ وتمييزي بين أعراق وإثنيات، ويسار هزيل مسرف في استدعاء التاريخ وذاكرات الظلم. وفي الحالتين.. لا شفاء من الماضي. 

على هذا المنوال، يمكن الاستدلال على ما نعيشه هنا في عالمنا العربي، كشعوب وأنظمة مدمنة على إدامة "التروما"، كأيديولوجيا لنظام الحكم، أو كثقافة ووعي عموميين. حيث يرتسم العالم "حرباً كونية" ومسلسلاً لا نهائياً للمؤامرات... وانتصارات متتالية ثمارها الوحيدة خراب عميم.