اللاجئون والاقتصاد.. وردّ "القوات اللبنانية" على غوغائية باسيل 

2019.06.30 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

على الضد من كل مناخات الكراهية، وعكس كل الممارسات الطاردة للسوريين في لبنان، هناك واقع آخر، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.

الآن، في موسم قطاف الكرز والمشمش والدراق، في السهول والهضاب وأعالي الجبال، حيث تتوزع البساتين، وجرياً على تقليد يمتد لعقود مديدة، سنرى آلاف العمال الزراعيين منذ ساعات الفجر وحتى المغيب، منهمكين في القطف والجمع والتوضيب. وجل هؤلاء من السوريين والسوريات، يعملون مع أهل القرى والمزارعين. كان ذلك قبل موجات اللجوء الاضطراري، ويستمر الآن.

قطاع الزراعة في لبنان، يعتمد منذ زمن بعيد على كثافة العمال الزراعيين السوريين موسمياً. وقانونياً، وحسب لوائح وزارة العمل اللبنانية، يعتبر العمل الزراعي واحداً من المهن التي يُسمح فيها لغير اللبنانيين مزاولتها. ولولا العمال السوريون، لكانت كلفة الإنتاج أكثر بكثير من قدرة المزارع على التسويق. بمعنى أن أسعار المنتوجات الزراعية التي يشتريها اللبنانيون هي اليوم "مقبولة" أو محتملة، وقد تكون أحياناً تنافسية في مجال التصدير، بسبب رخص اليد العاملة السورية مقارنة مع اليد العاملة اللبنانية.

منذ منتصف الخمسينات ارتبطت الحركة العمرانية في أرجاء لبنان بالشبان السوريين الكادحين دون سواهم

القطاع الآخر الذي يعتمد تقليدياً على العمالة السورية، هو قطاع البناء العقاري. فمنذ منتصف الخمسينات ارتبطت الحركة العمرانية في أرجاء لبنان بالشبان السوريين الكادحين دون سواهم. ومن النادر أن نرى عمالاً لبنانيين في ورشات البناء، فهؤلاء إما مهندسو تمديدات أو مشرفون أو أصحاب اختصاصات محددة، فيما "العمل" الفعلي، الشاق فيقع على عاتق العمال السوريين.

أيضاً، وبعد الحرب، ساهم عشرات الآلاف من هؤلاء البنائين المهرة في كل مشاريع إعادة البناء والإعمار. ومجدداً، كان رخص اليد العاملة السورية، عاملاً حاسماً في خفض الأكلاف العقارية، وفي إنجاز المشاريع في وقت قياسي، ما فاقم على نحو بالغ في الأرباح وفي النمو الاقتصادي. خصوصاً وأن النشاط العقاري يشكل رافداً أساسياً في الاقتصاد اللبناني.

ما يقال في قطاع البناء ينطبق إلى حد بعيد على العمل في المصانع، خصوصاً تلك التي تتطلب كثافة في الأيدي العاملة. فالحد الأدنى لراتب العامل اللبناني هو 600 دولار، يضاف إليه "الضمان الاجتماعي" والتأمين الصحي، وبدل النقل، وتعويضات نهاية الخدمة أو الصرف التعسفي.. إلخ. بينما يتقاضى العامل السوري في أفضل الأحوال ما يناهز نصف راتب اللبناني، عدا حقيقة ندرة العمال اللبنانيين في الشغل اليدوي و"العضلي" المرهق.

بمعنى آخر، يستغل الاقتصاد اللبناني فوارق الدخل بين سوريا ولبنان، من أجل توفير ضخم في كلفة الإنتاج بقطاعات أساسية. وهذا الواقع لم يشكل يوماً ما يقال أنه "مزاحمة" العمال السوريين للبنانيين في الوظائف والأشغال. حتى، مع موجات اللجوء بعد العام 2011، لم يدخل إلى سوق العمل اللبناني ما قد يكون "منافسة" سورية. بل حدث العكس تماماً. مثال واحد يكفي للدلالة على الهراء الذي يغلف كل الخطابات الشعبوية السائدة في لبنان. في لحظة تحريض جبران باسيل على اللاجئين السوريين، أعلن المنسق المقيم للأمم المتحدة في لبنان فيليب لازاريني، أن الأمم المتحدة ضخّت "حوالى نصف مليار دولار بشكل مباشر في إطار الخطة المتكاملة للاستجابة للأزمة في لبنان، ضمن برامج نقدية وضعتها الأمم المتحدة لدعم الاقتصاد اللبناني خلال العام المنصرم". وشرح لازاريني أن تلك الأموال صرفت على "شراء المواد الغذائية وغير الغذائية من متاجر لبنانية ودفع الإيجارات لمالكي العقارات اللبنانيين وتكاليف الرعاية الصحية والنقل المدرسي... وغيرها". وبلغ مجموع ما ضخته الأمم المتحدة هذا العام لدعم الحكومة اللبنانية ومساعدة اللاجئين، نحو 1.5 مليار دولار في الاقتصاد المحلي.

والمفارقة الكبرى في كل ما يثار حول اللاجئين ومزاحمتهم في العمل وعبئهم على لبنان، أن المناوئين والمحتجين وحاملي لواء العنصرية، هم على الأغلب من سكان المناطق غير الفقيرة، في حين أن وجود اللاجئين هو في مناطق مهملة وفقيرة أصلاً، في الشمال وفي البقاع، حيث يعاني الجميع من الضيق والعوز، وربما في تلك المناطق قد نرى مزاحمة على تحصيل الرزق: باعة متجولين، مهن وضيعة، إلا أن منسوب العنصرية هناك أقل بكثير مما هو في البيئات الغنية والمتوسطة الحال.. عدا أن مخيمات اللاجئين حتى ولو شهدت بعض الحزازات المحلية والتباينات الاجتماعية والحوادث التي تقع بداهة بين مجتمعات متجاورة ومستجدة في المعاشرة والأحوال، إلا أن هذه المخيمات وما جذبته من أنشطة رعائية واقتصادية، على مثال أن صاحب أرض المخيم الذي يتقاضى مئة دولار شهرياً عن كل خيمة من الجهات الداعمة، تضاعف مدخوله من الأرض على نحو لم يحلم به يوماً. كذلك إشغال المدارس بالتلامذة اللاجئين، بأكلاف تتكفل بها الجهات الدولية الداعمة، كان له فائدة اقتصادية كبيرة لعموم السكان.

الحقائق في هذا المجال كثيرة، ومن الصعب حصرها، ولا تتنافى مع حقيقة أخرى.. إن وضع اللجوء هو أمر غير طبيعي، ووجود أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري في بلد يصل تعداد سكانه المقيمين نحو أربعة ملايين هو عبء ثقيل وضاغط. ويحتاج إلى مقاربة سياسية كبيرة بحثاً عن حلول واقعية وعادلة في آن واحد. 

يعرف أصحاب التحريض على اللاجئين أن ما يقومون به ليس حلاً على الإطلاق، بل هو "مشكلة" إضافية، هو تربية عداوات وتعميم فوضى ونشر عنف وارتكاب شرور. وبدل التصدي لسبب "الأزمة" ومنع استمرارها يتم استهداف ضحاياها. بدل البحث في تأمين أسباب العودة وتأمين الطريق لهذه العودة، يتم التنكيل بالراغبين بالعودة. تنكيل النظام السوري بهم تهجيراً في البدء، ونفياً لهم باستمرار. ثم تنكيل لبنان بهم من أجل غايات سياسية من النوع الخسيس والدنيء، طالما أن أصحاب هذه السياسة موقنين أن الاضطهاد والإذلال لا يؤمن بأي شكل من الأشكال طريقاً وحلاً لوجودهم كلاجئين.

الحل بالغ الوضوح، أن تنجز الضمانات الإنسانية والبديهية لهؤلاء السوريين للعودة إلى بلدهم كمواطنين لهم كامل الحقوق والحرية والكرامة ولهم شرط الأمان والعيش الكريم. وهذا لا يتم إلا بحل سياسي لقيام دولة سوريا جديدة، لجميع أبنائها.

يعرف عنصريو لبنان أن شعارهم الأساسي الذي يستند على أزمة البطالة المستشرية في لبنان، وتحميل اللاجئين المسؤولية، هو محض افتراء

يعرف عنصريو لبنان أن شعارهم الأساسي الذي يستند على أزمة البطالة المستشرية في لبنان، وتحميل اللاجئين المسؤولية، هو محض افتراء. فالأزمة هي في مكان آخر وتتعلق بالأداء الاقتصادي وشروطه وظروفه المحلية والإقليمية والدولية، وفي مالية الدولة والخزينة والدين العام..إلخ.

وحتى ولو جارينا منطق العنصريين في مشكلة البطالة، فسنرى أنها تكمن أولاً في الفشل المديد للحكومات المتعاقبة بتنظيم سوق العمل ووضع القوانين الواضحة. 

في هذا السياق، وعلى الضد من سياسة "التيار الوطني الحر" (جبران باسيل)، انتهج حزب "القوات اللبنانية" بعناد وصلابة سياسة لا تخلو من مخاطرة الخسارة شعبياً في البيئة المسيحية، فعمل بجهد على تحصين جمهوره من موجة اللغة العنصرية وممارساتها، واشتغل بهدوء ودأب على تقديم مقاربة عقلانية وموزونة في التعامل مع مسألة اللاجئين السوريين وفي النظر إلى صورة هذا اللاجئ، بوصفه ضحية النظام الأسدي الذي هو أيضاً "عدو" حزب "القوات اللبنانية". 

هنا، ورداً على المناخات المشحونة بالمغالطات التي يروجها مؤيدو جبران باسيل، أطلق وزير العمل اللبناني (من "القوات اللبنانية") كميل أبو سليمان رزمة خدمات جديدة في إطار التعاون القائم بين وزارة العمل وخدمة البريد ،"ليبان بوست". وتضم الرزمة الجديدة المقدمة عبر البريد الموافقة المبدئية والموافقة المسبقة وإجازة العمل للمرة الأولى، ومن ضمنها للعمال السوريين.

وفي ما يخص خطة مكافحة اليد العاملة الأجنبية غير الشرعية في لبنان، أكد أبو سليمان أنه "لمس وعياً كبيراً من كل القطاعات لضرورة تطبيق القانون". وتسهيلا لذلك، أعلن إعفاء السوريين من الحصول على إفادة من السفارة السورية "وليسوا مضطرين إلى تقديمها ضمن المستندات المطلوبة للحصول على إجازة عمل، وضرورة أن يكون هناك مقابل كل عامل أجنبي ثلاثة عمال لبنانيين، مع التفهم لخصوصية بعض القطاعات كالزراعة والبناء حيث تكون النسبة أقل.

مبادرة الوزير القواتي هي باختصار، تأكيد على الحاجة الاقتصادية للعمال السوريين، قوننة شروط عملهم، منع استغلالهم بما يسمى "سوق عمل سوداء"، حفظ حقوق العمال اللبنانيين وتوفير توظيفهم.. لكن الأهم (سياسياً) هو تحرير السوريين في لبنان من سفارة النظام. تحريرهم من ابتزاز جلاوزة النظام وعسس مخابراته في الوكر المسمى "سفارة". تحريرهم أيضاً من ابتزاز السماسرة والوسطاء الذين لا يقلون دناءة عن موظفي السفارة.

إنها انتصار صغير للاجئين ولمجمل السوريين المقيمين في لبنان. إنها صفعة على وجه الغوغائية. إنها في نهاية المطاف تنظيف طفيف لصورة لبنان الملطخة.