الكيماوي السوري... صنعناه جميعاً

2018.04.16 | 13:47 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان حافظ الأسد يتأهب للانقضاض على السلطة عندما فكر في تأسيس مركز للبحوث العلمية يخدم طموحات وزارة الدفاع التي كان يشغلها، وقطاعات حكومية أخرى في الدولة التي سيطر عليها في ما سيسميه «الحركة التصحيحية» التي سيصبح هذا المركز «جوهرة التاج» فيها كما سيقول لاحقاً، بعد أن عثر على شريكه المناسب في هذه الفكرة، الدكتور عبد الله واثق شهيد.

ولد شهيد عام 1927. وينحدر من سلالة من المشايخ والمفتين والأزهريين الأحناف في قرية دارة عزة بريف حلب. حاز الدكتوراه في الفيزياء من جامعة السوربون في سن الثلاثين، وبعد حوالي عشر سنوات أسس وزارة التعليم العالي وترأسها. والحقيقة أن سِجل هذا الرجل الجاد والدؤوب، الدمث والمتواضع، مليء بالإنجاز، منذ حفظه معظم القرآن في كتّاب القرية، ثم انتقاله للدراسة في ثانوية التجهيز الشهيرة بحلب، فدخوله الجامعة السورية ضمن الدفعة الأولى من طلاب كلية العلوم، حيث كان يتسلى، أثناء عمله كمعيد فيها بعد التخرج في قسم الفيزياء، بدراسة مقررات زملائه في قسم الرياضيات.

كتب شهيد مرسوم إحداث «مركز الدراسات والبحوث العلمية» كهيئة مستقلة، وتولى تأسيسه وإدارته منذ عام 1971 وحتى 1994، عندما سيتقاعد ويصبح أميناً عاماً لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ 1995 وحتى وفاته في 2015. كما أنشأ «المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا» ومؤسسات بحثية وتصنيعية أخرى في المركز الذي ارتبط باسمه وصار يشبهه.

حظي شهيد بدعم قانوني ومالي غير محدود من الأسد الأب، فكان يستطيع اجتراح وتكييف الأنظمة الدراسية التي يراها مناسبة لتخريج الكوادر التي يحتاج إليها المركز، في قطاعات الهندسة والعلوم والحاسبات، دون الاضطرار إلى التقيد بالنظام الجامعي السوري الجامد. كما كان يستطيع تغذية خططه بالاحتياجات المادية المطلوبة، كرواتب الطلاب الموفدين داخلياً، وبعثات الإيفاد الخارجي التي كانت تتم في الغالب باتجاه جامعات أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الميزانية التشغيلية للمركز الذي تميز برواتبه العالية، وأخيراً المواد والمعدات التي يستلزمها البحث ثم التصنيع الذي تطور الأمر إليه بعد سنوات، والذي كانت ميزانيته مفتوحة بشكل سخي يثير غيرة المطلعين من كبار المسؤولين وشهيتهم نحو الفساد الذي لم يُتهم به المركز آنذاك، رغم سهولته بسبب الطبيعة المخاتلة للصفقات التي يجريها مع شركات متعددة في أنحاء العالم للتغطية على طبيعة أعماله وأهدافها.

ويسجل العلماء والباحثون الملاحظات بانتباه، بينما يتناول ضباط المخابرات الويسكي.

كما حظي شهيد من الأسد بما هو أهم من ذلك، في دولة بدأت المحسوبيات تغزوها، وهو اعتماد الكفاءة كمعيار أول للتوظيف، بمعزل عن التيار المتنامي في القطاع العام من التعيين باعتبار الانتساب إلى حزب البعث، أو استجابة لواسطة أمنية أو سواها، والتمييز على أساس طائفي.

ونتيجة الأسباب المذكورة صار العمل في مركز البحوث مطمح كثير من الخريجين المتفوقين في كليات الهندسة والفيزياء والكيمياء والإدارة والاقتصاد وسواها من الاختصاصات العلمية. فقد بنى شهيد مؤسسته وفق المعايير الغربية، ما أمكن، ومنح العاملين فيها امتيازات في الرواتب والسكن والضمان الصحي والسفر لأغراض علمية وأداء خدمة العلم في أعمالهم المعتادة. وفوق ذلك منح المركز العاملين فيه إحساساً بالأهمية، نتيجة سرية العمل، وبالرسالية، بسبب الشعور بالدور الوطني في تطوير الأسلحة الثقيلة والتقنيات العليا، ما أورث العاملين حساً بالانتماء تفتقر إليه مؤسسات الدولة الأسدية. وتعزز ذلك بسكن الموظفين في مجمعات سكنية خاصة، غالباً، كنت ترى فيها خبيراً أرمنياً حلبياً يقطن بجوار خريجة كيمياء دمشقية محجبة، فيما تنتظر الشقة الثالثة عودة ساكنها، مختص الحاسبات الإسماعيلي من مصياف، من الإيفاد في فرنسا.

وفي المقار المتكاثرة للمركز في العاصمة وفي المحافظات كان عموم الموظفين مدنيين من الطبقة الوسطى، مع حضور هامشي للحراس وللضباط الذين يقودونهم. أما ضباط الأمن، الذين لم يخلُ منهم أي من فروع المركز بالطبع، فكانت مهمتهم حماية المباني من الاعتداء، والمراقبة غير الفظة لأي ارتباطات جاسوسية قد يتورط فيها بعض العاملين، دون الشق على صدورهم لفحص الولاء للأسد كمهمة أولى لأجهزة الأمن عادة.

خلال مسيرته الطويلة انصب اهتمام المركز على ثلاثة محاور رئيسية، هي الصواريخ والإلكترونيات والأسلحة الكيماوية

يقول «أبناء المركز» إن هذه المرحلة الذهبية استمرت حتى غادره شهيد وخلفه اللواء علي ملاحفجي إثر تقاعده من قيادة القوى الجوية. وهنا بدأت حالة من العسكرة العلنية في ظل هذا الضابط المغرم بالأساليب السوفييتية، الذي لم يكن قادراً على ملء فراغ سلفه العالم ذي الكاريزما الأبوية. فصارت الصلاحيات تخرج من يده باتجاه معاونين ورؤساء فروع وأقسام، فضلاً عن تدخلات من خارج المركز، نقلته خطوة ثانية باتجاه التمييز الطائفي. ويضيف هؤلاء أن المدير العام الحالي، الدكتور عمرو أرمنازي، صار يشبه أي مدير عام حكومي آخر، تقريباً، فهو واجهة إدارية لمراكز قوى أقل منه رتبة ولكنها أقوى نفوذاً لاعتبارات طائفية، أو لارتباطها بالقصر الجمهوري أو بأجهزة الأمن أو بقادة قطع عسكرية مميزة. وقد تزامن ذلك مع تحول علاقات المركز الخارجية، بشكل مطرد، باتجاه إيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين.

خلال مسيرته الطويلة انصب اهتمام المركز على ثلاثة محاور رئيسية، هي الصواريخ والإلكترونيات والأسلحة الكيماوية. وقد بدأ البرنامج الأخير في الثمانينيات فعلياً، بإشراف المخابرات الجوية، الجهاز الأثير إلى قلب الأسد الذي كان مسكوناً بفكرة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وضمن هذا الإطار اتجه إلى امتلاك السلاح الكيماوي ليحقق توازن الرعب مع النووي الإسرائيلي الذي لا يمكن الطموح بالقضاء عليه أو بمجاراته. وقد آمن بهذه الفكرة أساتذة جامعيون وخبراء ومهندسون وفنيون في المركز، اندرجوا في فضاء السياق العام للفكرة السياسية القائلة أن «لا مدنيين في إسرائيل». ومن هنا سمحوا لأنفسهم، بمزيج من هذا الفهم «الوطني» المقاوم ومن الرغبة في الحفاظ على الامتيازات الشخصية، بإجراء التجارب المميتة على معتقلين مقتادين من سجن تدمر، كانوا يُعرّضون لقنبلة كيماوية تصرعهم فيما يختلجون، تماماً كالجرذان، ويسجل العلماء والباحثون الملاحظات بانتباه، بينما يتناول ضباط المخابرات الويسكي.

لقد أسهمت سورية كلها في صناعة السم الذي تتجرعه اليوم. وإذا كانت دارة عزة، بلد الدكتور شهيد، لم تُضرب بالكيماوي فربما يعود ذلك إلى الصدفة المحضة، فقد تعرضت لدرجات من القصف هي الأعلى في ريف حلب الغربي. فيما هو يمضي سنواته الأخيرة الهادئة في دمشق، كسواه من العجائز من الموظفين «المحترمين» الذين مروا على المركز وتقاعدوا منه دون أن يدينوا، ولو بكلمة، النظام الذي شاركوا في صنعه!