الفائض السكّاني واللجوء

2018.08.04 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في مشكلة الفائض السكّاني الذي أسماه زيجمونت باومان في كتابه "الأزمنة السائلة" النفايات البشرية التي شكّلت عبئاً على دول الحداثة قبل العولمة يتحدث عن الطريقة التي اتبعتها تلك الدول بحل مشكلاتها عن طريق وجود الأراضي المهجورة والأراضي الخالية من السكّان التي تستخدم لاستيعاب الفائض السكّاني.

أمّا الدول النامية فتقوم بتدوير تلك النفايات عن طريق "الحروب والمجازر والصراعات القبلية" بالإضافة إلى انتشار المليشيات المسلحة والعصابات الإجرامية التي تستقطب أعداداً كبيرة من الشباب العاطل عن العمل أو الشباب اليائس من الحياة وبعض البائسين الذين لا يستطيعون تأمين حياة فيها الحد الأدنى من الإنسانية.

إذن.. تختلف الطرق التي يتعامل بها الطرفان (دول الحداثة والدول النامية) مع قضية الفائض السكّاني، فالدول النّامية تقوم بإنتاج الفائض بشكّل مستمر وكبير وتصدّره عبر موجات اللجوء إلى دول الجوار أو إلى مخيمات قرب الحدود.

وهذه الخطة "إقامة مخيمات قرب الحدود" ليست من بنات أفكار تلك الدول بل مقترح من قبل رئيس الوزراء البريطاني بأن يتم إفراغ الفائض في مخيمات مؤقتة قرب الموطن الذي يُنتج ذلك الفائض.

فتحت دول الجوار أبوابها على مصراعيها، ليس لاستقبال الفائض السكّاني على أراضيها بل لحشره في مخيمات وذلك بدل فرض "مناطق آمنة" داخل حدود الوطن وهو ما طالب به الثوار والمدنيون.

واخترع لها مسمّى "ملاذات آمنة". ومن الواضح أنّ رئيس الوزراء البريطاني كان يهدف من ذلك الاقتراح أن تبقى بلاده بمنأى عن تلك القضايا ويحافظ على رفاهية مواطنيه ولو على حساب تفاقم المشاكل في تلك الدول.

لقد طالب سكّان الشّمال السّوري منذ بدء القصف الذي طال المدنيين بداية الثورة السورية بمنطقة آمنة، وكان المطلب موجّهاً إلى الدولة التركية تحديداً؛ لأنّ معظم السّوريين في الشّمال كانوا يرون في تركيا "ملاذاً آمناً" سياسياً ومجتمعياً.

فتحت دول الجوار أبوابها على مصراعيها، ليس لاستقبال الفائض السكّاني على أراضيها بل لحشره في مخيمات وذلك بدل فرض "مناطق آمنة" داخل حدود الوطن وهو ما طالب به الثوار والمدنيون.

ملاذات غير آمنة:

يقوم وجود المخيمات على المساعدات الإنسانية التي تقدمها الدول "الحداثية" وهي مرتبطة بشرط دوام الحرب والوضع الإنساني المأساوي في الوطن، وحين تقرّر تلك الدول أنّ الوطن صار آمناً فإنّها تقطع تلك المساعدات ولا يعود أمام اللاجئين سوى خيار العودة إلى وطن في الغالب لم يعد موجوداً، فالوضع القائم داخل الوطن قائم على تدمير المدن وتهجير أهلها وتسوية البيوت بالأرض، ليصار إلى إعادة بنائها فيما بعد ويقيم فيها أناس آخرون فرضتهم إرادة الاحتلالات المختلفة. لكنّ ذلك لا يعني شيئاً بالنّسبة للدول الدّاعمة التي أوجدت ظرف الحرب وظرف اللجوء ثمّ تركت هؤلاء في العراء يواجهون مصيرهم.

ومن وجهة نظر الغرب أنّ اللاجئين هم "النفايات البشرية" فهم لا فائدة منهم ولا قيمة لهم في البلد التي يقيمون فيها كما أنّهم لا يملكون الرغبة في الاندماج في المجتمعات "الحداثية" أو القدرة على ذلك وهم لا يستطيعون العودة ولا التقدم إلى الأمام وهم بذلك يشكّلون فائضاً لابدّ للدول التي يقيمون فيها إقامة مؤقتة من التخلص منهم، وربّما يكون التخلص منهم بسيناريو مشابه لما حدث في مخيم "كاسالا" السوداني والذي كان يحوي مئات آلاف اللاجئين من أرتيريا وأثيوبيا الذين فروا من المذابح القبلية والحروب، فقد قام "الأوصياء" على المخيم بقطع المياه عنه وأُخرج سكّانه بالقوة وسوي بالأرض حتّى لا يخطر ببالهم العودة إليه. هذا التّصرف الهمجي لا يقلّ همجية عن الحروب والمذابح التي فرّ منها هؤلاء. وقد قال أهل القرى المجاورة إن قرابة 9 آلاف لاجئ قضوا نحبهم نتيجة المرض والجوع والعطش.

هذه سياسية تدوير النفايات البشرية التي يقوم بها الغرب.

ملاذات آمنة:

هذا الوضع المأساوي للاجئين لا ينطبق على جميع الدول التي تستضيف اللاجئين أو تستقطبهم أو ترضى بوجودهم على مضض. فقد يتحوّل المخيم تدريجياً وبسبب عدم تغيّر الوضع في الدول التي تعاني من الحروب إلى أحياء سكنية عادية، ففي مدينة إنطاكية التركية حي في مدخل المدينة يعرف "بحي الأفغان" كان فيما مضى في بداية اللجوء الأفغاني مخيّماً بنته الدّولة للقادمين من أفغانستان بسبب الحرب، وتحوّلت الخيام إلى بيوت وأحياء وأزيلت حواجزها وصارت جزءاً من المدينة لكنّها حملت اسم سكّانها "الحي الأفغاني". وهذا ما حدث في بداية النزوح الفلسطيني إلى سوريا فالمعروف أنّ مخيم اليرموك في دمشق ليس فيه من صفات المخيم سوى اسمه، فهو حي من أحياء دمشق يسكنه الفلسطينيون وفيه أيضاً يسكن الكثير من السوريين وهو مثال حي على الاندماج. وهذا الفرق بين الدول "النامية والحداثية" في طريقة التعامل مع اللاجئين. لكن طريقة التّعامل هذه لا يمكن تعميمها على كلّ البلدان العربية أو البلدان المجاورة لمناطق الحروب. فالتّجربة السّورية في المخيمات اللبنانية خير مثال على نظرية "النفايات" الغربية، وإصرار الدّول الحاضنة للمخيمات على بطاقة اللجوء _وهي التي تحصل بها تلك الدول على الدعم المالي الأجنبي والذي لا يصل إلى اللاجئين_ خير مثال على تحويل اللاجئين إلى تجارة مربحة طيلة فترة إقامتهم المؤقتة.

اللجوء الدّاخلي والتّغيير الديمغرافي:

وفرضت الحرب السورية شكلاً آخر من أشكال اللجوء بانتزاع الحقوق الاجتماعية من أصحابها وانتزاعهم من بيوتهم وأرضهم ورميهم في أرض أخرى بهدف التّغيير الديمغرافي الذي فرضته دول الاحتلال والنّظام السوري من خلال حصار غوطة دمشق وتهجير أهلها، وتدمير مخيم اليرموك وتهجير أهله. وقد تمّ استغلال هذا الوضع من قبل السلطة الحاكمة والسلطات المحتلة وقادة الفصائل بزرع الصراعات والكراهية بين اللاجئين والسكّان الأصليين للمناطق التي تمّ تغيير وجهها ديمغرافياً.

تنتفي الشروط الوجودية حين يصبح لاجئاً تسلب منه تلك الامتيازات "الوجودية" دفعة واحدة ويستعاض عنها ببطاقة "لاجئ" فيصبح داخل كتلة بشرية مضغوطة ضمن "مخيم" تعتمد في حياتها على المساعدات.

كما حدث من تهجير للأكراد في عفرين وإحلال النازحين من الغوطة مكانهم. هذا الوضع الذي أثار نقمة الأكراد تماماً كما أثار وجود سكّان إيرانيين في محيط العاصمة دمشق مكان أهل الغوطة.

بطاقة لاجئ بديل الوطن!

يستمد الإنسان وجوده من هويته وانتمائه إلى دولة داخل حدود وطن له فيه أرض وبيت ووظيفة وأسرة ومجتمع مؤلف من جيران ومعارف وأصدقاء، تنتفي هذه الشروط الوجودية حين يصبح لاجئاً تسلب منه تلك الامتيازات "الوجودية" دفعة واحدة ويستعاض عنها ببطاقة "لاجئ" فيصبح داخل كتلة بشرية مضغوطة ضمن "مخيم" تعتمد في حياتها على المساعدات المقدمة من دول أرادت أن ترتاح من وخز الضمير بتقديم مساعدة "إنسانية" تحمل في خلفيتها تعويماً للقضية الأساسية، وتغطي على الوجود المسلح للفصائل المقاتلة على الأرض، وتنحصر قضية الوجود في سلة غذائية! هذا بالإضافة إلى الشكّ القائم والمشروع في كون تلك المنظمات تساعد "عن غير قصد" الأنظمة الحاكمة في عملية الإقصاء والتهجير بما تقدمه من مساعدات تبقي الوضع قائماً على ما هو عليه!

واقع الحال في مسألة اللجوء ينبئ بكارثة إنسانية أخلاقية، فهو يساعد في تدوير "النفايات البشرية" بحسب التّعبير الغربي، كما يساعد على إراحة ضمير الغرب بإيجاده الحل المناسب لمسألة حماية واستيعاب وإبقاء تلك "النفايات" على قيد الحياة!

ولا يمكن وقف هذه الكارثة المُصنَّعة إلا بموقف وطني حقيقي يصرخ في وجه هذا العالم المتوحش، متجاوزاً آلام سبع سنوات من التّآمر العربي والعالمي على شعب أراد الحياة. فهل يعي السّوريون خطورة الموقف؟

..

كلمات مفتاحية