العنصرية ثمن ضياع الهوية.. هوامش على دفتر نكبة الإنسانية

2019.05.29 | 23:15 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عاشت البلاد العربية على وقع نكبات متتالية. أسهمت النكبة الفلسطينية في نكبة العرب أجمعين، أنظمة وشعوبا. أسرت المجتمعات وتعسكرت، على وقع الخطاب المطالب باستعادة فلسطين، فكان هذا أول افتراق تاريخي عن جوهر القضية وفحواها، لأن ما يرجع فلسطين هو الحرية وليس العسكريتارية التي تقتل الهويات داخل البلد الواحد وتوقف تاريخ الشعوب. رزحت الشعوب العربية تحت نير الاستبداد، ما انعكس صراعاً هوياتياً على الأرض بين مكونات المجتمع المختلفة، كصراع الفلسطينيين والأردنيين، ولاحقاً صراع اللبنانيين والفلسطينيين، وحالياً صراع اللبنانيين والسوريين. كل هذه الصراعات كانت نتاج الأنظمة ونتاج غياب مفهوم الدولة الوطنية، واستباحة الخصوصية المجتمعية لكل كيان.

يعيش الشعبان اللبناني والسوري حالة متأزمة بفعل ملف اللجوء السوري إلى لبنان. السبب الأول لهذا التأزم، أن في لبنان نسخة رديئة من اليمين المتطرف والشعبوي، قادر على فرض ما يريد معنوياً وسياسياً. في مقابل نظام إبادة وتطهير معاد للشعب السوري من الجهة السورية. ويغيب عن المشهد معارضة سورية لم تستطع أن تمثّل نفسها وجمهورها، ولم يتح لها، أن تحاور الدولة اللبنانية حول الهواجس، كما يغيب عن الطرف اللبناني قوى ديمقراطية فاعلة، تعيد إلى لبنان الصورة والسلوك المطابقين لقيمه الجمهورية التي لطالما كانت حضناً للاجئين والمضطهدين في هذه المنطقة.

النظرة التاريخية لتشكّل الحضارات تقوم على مبدأ تلاقي الاغترابات. وبمعنى أوضح أن الغرباء هم الذين

في مرحلة الثورة السورية، أزاح السوريون خطاب "الصهر" والوحدة والأمة المتخيلة، وبدؤوا بإعادة تعريف: "من هم السوريون؟" فبدأ النطق والاعتراف بالمكونات المتنوعة داخل المجتمع السوري

يضيفون ثقافة على مجتمع معين، فتزدهر قيمه وهذه ثابتة تاريخياً، مع الحفاظ على التناقضات بين كل جماعة بشرية فيما بينها وفي داخل كل واحدة منها. والحفاظ على التنوع هو الذي يصنع ديناميكية وحيوية للمجتمع اللبناني مثلاً، من دون إغفال المنازعات الطبيعية لأي مجتمع متعدد، أو صاحب تجربة سياسية (مصطنعة).

في مرحلة الثورة السورية، أزاح السوريون خطاب "الصهر" والوحدة والأمة المتخيلة، وبدؤوا بإعادة تعريف: "من هم السوريون؟" فبدأ النطق والاعتراف بالمكونات المتنوعة داخل المجتمع السوري، وعلى أساس هذا الاعتراف واكتشاف السوريين لسوريتهم، تتم مراجعة الرواية التأسيسية للكيان السوري، وتشريحه لفهم صيرورته الحقيقية، وبأي إرادات وتسويات أهلية أو ضمانات للجماعات وللمناطق، هي التي كونت المجتمع والكيان.

إثر الثورة وسقوط الرواية البعثية بضمير السوريين ووعيهم، من شأنه أن يطرح مستقبلاً، ورشة مؤلمة وقاسية ومعقدة لصوغ أمة قائمة على تعاقد حرّ بين الجماعات. في استنساخ لتجارب عالمية، ولبنانية أيضاً، خاصة أن لبنان عاش لسنوات طويلة تائهاً بين هويات متعددة. تاريخياً، كان المشكل الاجتماعي اللبناني اللبناني حول تعريف الكيان، يتركز على خيار من اثنين، إما أن يكون الملجأ للمضطهدين، وبلد الانفتاح الذي ينطلق من نظرة ليبرالية اجتماعية. تتكون هذه النظرة انطلاقاً من رؤية لبنانية حول الدور الذي يلعبه البلد تاريخياً في المشرق العربي تنويرياً ونهضوياً. في مقابل نظرة أخرى متناقضة تقوم على الخوف والرهاب من المدى العربي المتداخل، بوصفه مناقض لقيم الحداثة اللبنانية والتنوع، ما يكوّن نظرة حول استمرار الخوف من اجتياحه وابتلاعه. بين هاتين النزعتين، يحتاج اللبنانيون دوماً الى طمأنينة وجودهم واستمرار نموذجهم، وهذا ما يتطلب اعترافاً عربياً سورياً بالتحديد، بشرعية هذا الكيان وحصانته ونهائيته.

وكان هناك ادعاء ماروني مثلاً بالالتزام بشروط الحداثة والعصرية، ولكن في نفس الوقت بقيت نزعة الحصن أو التقوقع والعودة إلى المخابئ الجبلية والوديان المنيعة والبراءة الريفية الأولى. وهذا ينجم عن تناقض بسن الخطاب المتبنى، والوعي الأولي أو البدائي، الذي تنامى على استشعار الخطر بالإلغاء والإبادة. أما المسلمون فلطالما شعروا بانتماء بلا أي عائق أو تردد أو موانع لجماعة أوسع من الرابطة الوطنية، وهي الأمة بمفهوميها، العربية والإسلامية. في نفس الوقت وخصوصاً أثناء الحرب وبعدها، اكتسب المسلمون اللبنانيون، تعلّقاً بالامتيازات التي يمنحها الكيان اللبناني لهم، على سبيل الحريات العامة والفردية، ميزات التعايش مع الآخر المختلف، سهولة التواؤم مع متطلبات الحداثة والعصرنة، مكاسب القيم التي تعلي من شأن التعليم، العدالة والمساواة وحكم القانون ومنع الاستبداد.

في المقابل، لا يمكن إغفال العقيدة العروبية الإسلامية، والثقافة السائدة عموماً، وترتكز على أن لبنان هو كيان مصطنع، سلخ بإرادة استعمارية، عن محيطه السوري وبلاد الشام ككل، وهذا الاعتقاد اتخذ منحى إيديولوجياً ممنهجاً لدى حزب البعث، بالإضافة إلى ثقافة يسارية ثورية نضالية، تزدري فكرة الدول استقلالها وسيادتها. وهذا ما أتاح لسيرة طويلة من الاستباحة الفلسطينية والسورية، للكيان اللبناني.

وعلى أساس التناقض الأصيل بين الفكرتين الآنفتين، نشأ تناقض آخر يتعلق بالتميز الكبير بين النظام السياسي والتجربة السياسية في لبنان عن مثيلاتها العربية. بمعنى أن النظام اللبناني

التاريخ الحديث ذاكرة لبنانية تدعم فكرة الرهاب من الغرق في البحر العربي، والخوف من الاستباحة، وهذا ما عزز غريزة بدائية عنصرية تجاه الفلسطيني والسوري

تاريخياً لم يكن معادياً للغرب، ويؤمن بالاعتراف بالجماعات وتنوعاتها وهوياتها، وصاحب دستور ديمقراطي، يصون حرية المعتقد والتعبير، في مقابل أنظمة عربية وسورية على النقيض من ذلك. وإذا ما صحّ وصف لبنان بالأمة، فهي تقوم على التعاقد بين الجماعات، بينما الايديولوجيات العروبية والتي هيمنت على سوريا، تعتبر الأمة معطى سابق على أي تعاقد، وبغض النظر عن إرادات الجماعات وتبايناتها الثقافية والدينية والمذهبية.

 كوّن التاريخ الحديث ذاكرة لبنانية تدعم فكرة الرهاب من الغرق في البحر العربي، والخوف من الاستباحة، وهذا ما عزز غريزة بدائية عنصرية تجاه الفلسطيني والسوري. بينما تنازعت رغبتان متناقضتان السوريين والفلسطينيين، الأولى، اشتهاء المثال اللبناني ونمط عيشه من جهة، والرغبة بتدميره وإزالته، لتوحيده وابتلاعه تحت شعار محو آثار الاستعمار التي اصطنعته، من جهة ثانية.

ينشأ عن كل هذا الخليط المتناقض، سوء فهم يتحول إلى استثمارات سياسية، سمتها الأولى اللاعقلانية عند الجميع. ومواجهة ذلك لا بد أن يبدأ في نيل السوريين لحريتهم، وإزالة التناقض الذي أرسته الايديولوجية الإلغائية، سواء كانت عروبية أو غيرها، وإلغاء الإنكارية التي تسببت بكوارث عديدة، من القضية الفلسطينية، إلى لبنان والكويت، وكوارث أخرى في اليمن والسودان. حان الوقت للاعتراف بخصوصيات الكيانات السياسية بما يمهد للتعايش الإيجابي وليس التعايش القسري بين هذه الشعوب، تعاوناً وتضامناً واختلافاً، وتنازعاً سلمياً طبيعياً. ولا يمكن إغفال أحد الأسباب الأساسية لتنامي العنصرية أو النزاعات ما بين الجماعات البشرية المختلفة، وهي تنجم عن خسارة الأرض، والتي تفرض على شعب خسر أرضه أن يبحث عن أرض بديلة يقيم عليها، ويحقق ذاتيته، فكان تهجير الفلسطينيين سبباً لذوبان حدود الدول واندلاع صراعات اجتماعية، وكذلك يسهم تهجير السوريين من أرضهم في تنامي صراع على الوجود والبقاء على بقعة جغرافية أخرى، سواء في لبنان أو غيره، بينما الحلّ يكون في استعادة الأرض لاستعادة الهوية، بعيداً من النزاعات العنصرية، وحلّ هذه المعضلة يبدأ من طريق وحيدة لا أفق غيرها، وهو مواجهة الأنظمة التي هجرّت أهل الأرض، إلى بقاع مختلفة.