العشائر السورية بين سجو وأثريا

2019.02.28 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما تزال البنى القبلية والعشائرية تشكل جزءاً كبيراً من النسيج الاجتماعي، في أغلب البلدان العربية، ومنها سوريا، حيث حافظت تلك البنى مع الزمن على نسيجها القائم على قوانين وأعراف خاصة، وتمكنت من لعب دور المؤسسة الاجتماعية الرامية إلى تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار، فضلاً عن الحفاظ على علاقات التضامن الاجتماعي بين أفرادها، وفيما بينها كعشائر وقبائل.

لم تهمل الدول أو السلطات التعامل مع تلك البنى، منذ حقبة السيطرة الاستعمارية، حيث حاولت الحكومات الاستعمارية زجها في وجه الحركات المناهضة له، وبعد ذلك تابعت الحكومات التي نشأت بعد الاستقلال بنفس السياسة، إذ سعت لتوظيف العلاقات القبلية، كونها تضم قاعدة شعبية كبيرة، بهدف تعزيز هيمنة واستمرارية تلك السلطات.

في سوريا، بعد سيطرة الأسد، كان هناك تعامل خاص، إذ جعل الأسد من أولوياته تفكيك النسيج الاجتماعي السائد وإعادة تشكيله بما يخدم مصالحه واستمرار حكمه، فكان يُبعد بعض شيوخ القبائل والعشائر، ويعيّن بدائل لهم، رغم عدم وجاهتهم، حيث إن جذب الشيخ يمكن أن يضمن له ولاء العشيرة إلى حد ما، لأن مهمته تمثيل العشيرة والتعامل

تغيّرت الولاءات بين العشائر، من النظام إلى المعارضة وداعش، لاعتبارات عدة، منها القوة المسيطرة في مناطقهم حيث كان أبناء العشائر – كحال بقية السكان- يُظهرون الولاء للجانب الذي يسيطر على أراضيهم

مع العشائر الأخرى ومع الدولة أيضاً. ويمكن القول إن النظام الأسدي نجح إلى حد بعيد في تفكيك النسيج السوري، ومنه العشائري، وهو الأمر الذي نلمسه كثيراً اليوم مع انطلاقة الثورة السورية، التي لم تتمكن بكل فعالياتها ومعها الأحزاب المعارضة من خلق أو صناعة شخصيات وطنية يُجمع عليها غالبية السكان.

تغيّرت الولاءات بين العشائر، من النظام إلى المعارضة وداعش، لاعتبارات عدة، منها القوة المسيطرة في مناطقهم حيث كان أبناء العشائر – كحال بقية السكان- يُظهرون الولاء للجانب الذي يسيطر على أراضيهم، إضافة للإغراءات المالية والسلطوية. كما وقعت معارك بين أبنائها في بعض الأوقات، نتيجة الاستقطابات الحاصلة والتموضعات الجغرافية والسياسية بين العشائر.

بعد ثماني سنوات، وبعد بلوغ حالة الاستقطاب الدولي والإقليمي درجة مروعة ما تزال تنعكس سلباً على سوريا والسوريين، وبعد فشل بعض التجارب في تمثيل السوريين، بدأت تبحث الدول المتصارعة على نفوذها في سوريا عن تشكيلات اجتماعية وسياسية يمكن أن تشكّل ركائز لتبرير مصالحها الخاصة، ولم تجد لها اليوم قاعدة خيرًا من العشائر.

في أقصى نقطة من شمال سوريا، في قرية سجو الصغيرة جداً، المتاخمة للحدود التركية، وفي ديوان العشائر، اجتمع ممثلو حوالي 150 عشيرة، في كانون الأول 2018، برعاية تركيا (آخر الحلفاء للثورة السورية) بهدف تأسيس مظلة تجمع تلك العشائر الموجودة في سوريا، بغض النظر عن انتمائها العرقي (عرب وأكراد وتركمان) في استباق للعملية العسكرية التركية شرق الفرات، حيث يمكن لتلك المظلة أن تضمن قاعدة اجتماعية شعبية مؤيدة لتلك العملية. كما يمكن أن تلعب دوراً مهماً في إدارة المنطقة، منعاً لتكرار ما حدث في عفرين.

وفي محاولة لإعطاء زخم للاجتماع التأسيس، حضره السيد رئيس الائتلاف الوطني، مع بعض من أعضاءه، حيث قال: إن الائتلاف "أضفى على المجلس شرعية مستمدة من مشروعية الائتلاف"، وشدد على "الدور المهم والإيجابي" للعشائر في تاريخ سوريا، وفي "الحفاظ على النسيج الاجتماعي" السوري، كما حضر أحمد طعمة، رئيس الحكومة المؤقتة الأولى، الذي يلعب دوراً أساسياً في تشكيله وفي التنسيق ما بين العشائر، تماشياً مع دوره الحالي في تمثيل المعارضة في اجتماعات آستانا، التي يعتبرها المسار الفعال الوحيد حالياً في جهود حل الأزمة في سوريا.    

بعد شهرين، وفي 20 شباط الحالي، تمكنت تلك العشائر من انتخاب مجلس مؤلف من 35 شخصية، يمثل معظم العشائر السورية (30 عرب و3 من التركمان و2 من الأكراد) في تمثيل وازن ومعقول لعشائر وقبائل شرق الفرات، على عكس غربه. و"انتخب" المجلس رامي الدوش ( من عشيرة العكيدات) رئيساً للمجلس.

وكردٍ على اجتماع سجو في نهاية عام 2018، دعت شخصيات سنية من برجوازية المحسوبيات حديثة التكوين إلى اجتماع مماثل بالشكل ومناهض بالمضمون، حيث أُوكل الأمر إلى السيد قاطرجي، وهو عضو في مجلس الشعب، أثرى حتى التخمة في زمن الثورة نتيجة تجارة القمح والنفط بين داعش والنظام، ومن بعدها بين وحدات حماية الشعب الكردية والنظام، حيث تم اختيار بلدة أثريا التابعة لمدينة السلمية، حماة، لعقد ذلك الاجتماع، والغريب والطريف في الأمر أن إعلام النظام ومواليه يصرون على أن أثريا من الريف الجنوبي لحلب، في إشارة مناقضة لسجو، أقصى شمال حلب.

في 25 كانون الثاني، تحت عنوان "ملتقى القبائل والعشائر والنخب الوطنية"، عقد ذلك التجمع، واستمر لأيام وقد رافقته مظاهر من البذخ وتوزيع الأموال على الحضور، بغية إنجاحه كرد مباشر على اجتماع سجو.

استدعى القاطرجي - ومن خلفه المخابرات والميليشيات الإيرانية - أكثر من ألف شخص من الحسكة ودير الزور والرقة، كما أجبروا الموظفين من أبناء تلك العشائر المقيمين في محافظات دمشق اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة بالحضور تكيملاً للمشهد، ناهيك عن حضور لبناني وعراقي، وكانت مفاجأة الاجتماع بمقدار تفاهته: مكرمة الأسد بإطلاق سراح (86) موقوفاً من أبناء تلك العشائر، وهي التي أطنب في مدحها "الشيوخ" والإعلام معاً.

بالطبع، لم يخلُ البيان الختامي من دواعي عقد ذلك الاجتماع، حيث أعلن عن رفض "التدخل التركي بشؤون وطننا تحت أي ذريعة كانت، ولا سيّما قتال إخوتنا الكرد". والغريب في الأمر أنه أعاد تعريف السوري بأنه من "عاش على أرض سوريا" تماشياً مع ما قاله الجزار الأسد سابقاً، وما تنويه إيران حالياً،  ويبدو أن هذا التعريف الغريب من منجزات "النخب الوطنية" في ذلك الاجتماع.

ركز المجتمعون على قضايا مطلبية وسياسية، مثل "المطالبة بعفو عام لكل من لم تتلطخ أيديهم بالدماء"، و"تسوية أوضاع المطلوبين لخدمة العلم"، و"إعادة الدوائر الحكومية والخدمية"، لكنه في الجوهر كان مسعى إيرانياً بغية اختراق المجتمع القبلي والعشائري في المنطقة، ونشر التشيع فيه لخلق حاضنة شعبية، خاصة أن إيران تدرك تماماً أن الشيعة في سوريا لا يمكن أن يشكلوا ذلك الوسط والحاضنة، بسبب تعدادهم السكاني (حوالي 1 في المئة من سكان سوريا).

نتيجة لسياسات النظام ومنهجه في تفتيت بنى المجتمع الأهلية، وللتصارعات والتخندقات الحادة في زمن الثورة؛ تمزّقت العشائر

اجتماع سجو، كان بغاية أن تخلق تركيا حليفاً قوياً لعمليتها شرق الفرات، من أبناء المنطقة ذاتها، بينما يأتي اجتماع أثريا، ضمن المسعى الإيراني في نشر التشيع بين السوريين

العربية (غالبيتها من السنة)، بينما تمكنت العشائر ذات العرقيات الأخرى والتشكيلات المذهبية الأخرى من خلق كيانات جديدة، دعماً لمواقفها وتأكيد دورها في سوريا "المستقبل" التي ينوي القائمون حالياً عليها إعادة تشكيلها اعتماداً على مبدأ "المكونات" الفسيفسائية، كما رسم بريمر من قبل في العراق، حيث تأتي تلك الاجتماعات ضمن هذا السياق، في سباق نحو نفس المنبع: العشيرة.

فاجتماع سجو، كان بغاية أن تخلق تركيا حليفاً قوياً لعمليتها شرق الفرات، من أبناء المنطقة ذاتها، بينما يأتي اجتماع أثريا، ضمن المسعى الإيراني في نشر التشيع بين السوريين، كون الشيعة في سورية أقلية صغيرة جداً، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها لدعم المشروع الإيراني، كما أنه في شكل ما يُعدّ أحد تجليات الصراع الروسي الإيراني، أما همه الأكبر فمواجهة الدور التركي ومن ورائه الشعب السوري. وما نأمله نحن السوريين، مع الفارق الكبير بين الاجتماعين، حيث يتركز الثقل العشائري في الطرف المعارض، أن يساهم هذا المجلس في تبني مطالب السوريين، كما أعلن المجلس نفسه من تبنيه لمطالب الثورة كما أعلن في بيانه التأسيسي، متجاوزاً الهموم والمطالب المحلية للعشائر والقبائل، لا أن يكون واجهة مؤقتة كغيره من الهيئات، سرعان ما يتم إهماله.