"الطواحين الشيطانية" تهدد الديمقراطية

2019.06.02 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

 

لم يدخل العالم الغربي في جدل حول جدوى الديمقراطية كنظام سياسي حتى الآن، لأنه يرى فيها أحد أهم ركائز حضارته المعاصرة، لكنه بدأ نقاشا عن مدى تأثرها بالتطور التقني الهائل، الذي يمثل ذروة سنامه جمع البيانات وتحليلها عبر آليات الذكاء الصناعي.

في عام 2016، دعت  Cambridge Analytica -وهي شركة استشارات سياسية- مستخدمي فيسبوك لتحدي (مثل أي المشاهير تشبه). بعد ذلك جمعوا بيانات 87 مليون مستخدم لبناء ملفات تعريف نفسية عن ناخبين تم استهدافهم فيما بعد من خلال إعلانات فيسبوك، التي تم تصميمها لزيادة مؤيدي دونالد ترمب وتثبيط حملة هيلاري كلينتون.

شكلت فضيحة "Cambridge Analytica" المملوكة للملياردير روبرت ميرسِر، أزمة سياسية لترمب، وأزمة أخلاقية ومالية لشركة فيسبوك التي خسرت في ساعات نحو 150 مليار دولار، وهبطت أسهمها 20%، وتراجع مالكها مارك زوكربيرغ من المركز الثالث في ترتيب أغنياء العالم إلى السادس.

أثارت الأزمة نقاشاً لم ينته إلى الآن حول الخصوصية، ومدى تأثر الديمقراطية بعوامل جديدة خلقها تطور تقني، تقوده شركات متعددة الجنسيات.

في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة" الصادر مطلع العام الجاري، تقول أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة هارفارد شوشانا زوبوف، إن الخصوصية في القرن التاسع عشر، كانت تتعلق بالحماية من الناس. ثم أصبحت في القرن العشرين عن الحماية من الحكومة. لكنها في القرن الحادي والعشرين، باتت تتعلق بالحماية من شركات مثل غوغل وفيسبوك وأمازون، التي تحولت إلى إمبراطوريات بيانات، تعرف مخاوفنا العميقة، وأفضل أصدقائنا، وورق التواليت المفضل لدينا.

تحذر زوبوف من اعتداء على الديمقراطية عن طريق تخريب فكرة الخصوصية أو الفردية، وتقول إن "رأسمالية المراقبة" يمكن أن تكون أشبه بـ "انقلاب من أعلى".

من خلال تعقب حركتنا على الشاشات ورصد كل تعبير رقمي يترجم اهتمامنا وطموحنا ورغباتنا، بإمكان الشركات المذكورة وغيرها التسلل إلى وعينا، وتكوين أنماط ورؤى تتنبأ بسلوكنا، ومن ثم بيعها لزبائن معلَنين هم المعلِنين أو غير مصرح عنهم، قد يكونون سياسيين.

تحذر زوبوف من اعتداء على الديمقراطية عن طريق تخريب فكرة الخصوصية أو الفردية، وتقول إن "رأسمالية المراقبة" يمكن أن تكون أشبه بـ "انقلاب من أعلى".

تنظر الشركات إلى التجربة البشرية الخاصة كمصدر لمواد خام مجانية، تحولها إلى بيانات سلوكية، يتم ضمها إلى ما سمته زوبوف بـ الطواحين الشيطانية المظلمة للقرن الحادي والعشرين، وهي الذكاء الصناعي، والتعلم الآلي، من أجل خلق التنبؤات، التي تعد بمثابة السلع الجديدة.

وتفرق الباحثة الأميركية بين البيانات السلوكية التي تجمعها الشركات عن البشر، وتستخدمها لتحسين ما تقدمه لهم، وفائض البيانات الذي تستخدمه خلال عمليات خاصة لإنتاج التنبؤات، وكل هذا يحدث دون إذن وبطريقة مصممة لتجاوز وعي الإنسان، وإبقائه جاهلاً.

وفقًا لزوبوف، البشر هم المورد الذي يتم تعدينه (التنقيب فيه)؛ الأرباح التي تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات لـ Facebook وGoogle وغيرها، مبنية على محاسبة عامة لحياة الناس وسلوكهم اليومي.

في ظل نظام رأسمالية المراقبة، لا يكفي مجرد جمع المعلومات حول ما يفعله الناس. بل يجب التأثير في السلوك، بما يتجاوز الإقناع البسيط الذي تمارسه الإعلانات المستهدفة. لا يتعلق الأمر بإظهار الإعلان المناسب لشخص ما فقط؛ لكن إظهاره في المكان والزمان المناسبين، مع معايرة اللغة والصور من أجل الحصول على التأثير الدقيق، الذي يقود الناس في العالم المادي، ويجعلهم يذهبون إلى المتجر المعلن عنه، أو التصويت للمرشح المطلوب.

ولتحقيق ذلك يتم الاعتماد على شيء يسمى نموذج الشخصية الذي يسهل تحليل البيانات السلوكية والخروج بتقييمات محددة للغاية. وهذا ما عملت عليه Cambridge Analytica. على سبيل المثال، سيعرفون إن كان الشخص المستهدف مثليا أو مؤيداً لليمين، أو راديكاليا.

يتم تنظيم العديد من البيانات السلوكية الصغيرة والصغيرة جداً بواسطة نموذج الشخصية. مثلا تأخذ الشركات جميع الأشخاص الذين يستخدمون علامات الترقيم، ويربطون ذلك بملفات تعريف الشخصية. الأشخاص الذين يميلون إلى استخدام علامات الحذف (...) لديهم حالة من عدم اليقين أو لا يرغبون في إنهاء الأمور. يمكن هنا ترتيب البيانات نظريًا بطريقة ما والحصول على شيء مفيد.

أصبحت الديمقراطية، محاصرة بالبنية التي تم إنشاؤها تحت رعاية رأس المال الخاص والتي تقوم على فجوة غير مسبوقة بالمعرفة، تؤدي إلى فارق غير مسبوق في القوة.

تقول زوبوف إنهم يبنون تفاصيل نفسية حقيقية حول الأشخاص المستهدفين، بحيث يمكنهم بعد ذلك البدء في توقع كيف سيتفاعل الشخص صاحب الملف مع الاستثارة. إذا كان لديه ميول ما أو شعور بالارتباك أو أي شيء، يتم توجيه حافز يقول "هذا الشيء يحدث ويجب عليك القيام بذلك"، "يجب عليك شراء هذا" أو "يجب أن تصوت بهذه الطريقة".

هذه القدرة على تعديل السلوك بشكل شامل، أو ما تسميه زوبوف بـ السلطة الأداتية (Instrumentarian Power) التي يمكن استخدامها لضبط السكان والقطيع لتحقيق النتائج التجارية في العالم الحقيقي، وفي خدمة نمو عائدات المراقبة، يمكن إعادة استخدامها أيضاً للأغراض السياسية. وهذا ما حصل بالفعل في أميركا، حيث إن أي بلوتوقراطي (حكم الأثرياء) طموح، يمكنه شراء المهارات والبيانات لاستخدام المنهجيات نفسها بهدف التأثير على النتائج السياسية.

بهذا تصبح الديمقراطية بحسب زوبوف، محاصرة بالبنية التي تم إنشاؤها تحت رعاية رأس المال الخاص والتي تقوم على فجوة غير مسبوقة بالمعرفة، تؤدي إلى فارق غير مسبوق في القوة. قوة قادرة على تشكيل سلوكنا، ومصممة لتعمل خارج وعينا، وتبقينا جاهلين. تقول زوبوف إننا ندخل القرن الحادي والعشرين في هذا الإطار المؤسسي الذي يقدم محورًا جديدًا بالكامل من عدم المساواة الاجتماعية. ليس فقط عدم المساواة الاقتصادية، بل تفاوتات عميقة في المعرفة والقوة، التي يمكن أن تؤثر في سلوكنا، وسلوك مجتمعنا.

تعتبر الباحثة ذلك تدخلاً على مستوى الإرادة البشرية، والحكم الذاتي البشري، والسيادة الفردية، "نحن المستخدمون الذين يتم التدخل في سلوكهم، ولمسهم أو إقناعهم، أو تعديلهم، أو نقضهم ليصبحوا بلا إرادة حرة، وحكم ذاتي أخلاقي". وهنا لا يمكن تخيل وجود مجتمع ديمقراطي.

تحت غطاء قانوني مئة في المئة تستمر هذه الشركات بجمع البيانات السلوكية وتستخدمها. لكن ماذا لو ترشح للسلطة في الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية شخص يعارض مصالح غوغل وفيسبوك وأخواتها، كيف ستكون نتيجة الديمقراطية؟!

بالطبع لن يأتي هكذا مرشح، لأن هذه الشركات وغيرها من القوى الاقتصادية ينظر لها في الغرب كرموز وطنية، تضاهي العلم والنشيد الوطني، كما أنها تقدم لحكوماتها خدمات تتعلق بالأمن القومي والنظام العام. فشركة أمازون مثلا تتشارك مع الشرطة الأميركية نظام تعرف على وجوه المجرمين المشتبه بهم يعتمد على قواعد بيانات الأولى.

إن المعضلة لن تكون في الدول التي تحتضن هذه الشركات وتؤثر عليها. بل في بلدان أخرى يحكمها أنظمة ديمقراطية أو حتى ديكتاتورية، وهي في موضع المتأثر فقط.

في تركيا بات وسم صاعد على تويتر بعد إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول شعار مرشح المعارضة في دورة الإعادة. ودائماً ما تتحول قضايا إشكالية في المجتمع إلى نقاش محتدم على وسائل التواصل الاجتماعي.

في تركيا أصبح وسم صاعد على تويتر بعد إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول شعار مرشح المعارضة في دورة الإعادة. ودائماً ما تتحول قضايا إشكالية في المجتمع إلى نقاش محتدم على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتمد في عرضها للمنشورات على خوارزميات غير معلنة. ورغم ذلك ليس للبلاد استثمارات تذكر في "رأسمالية المراقبة".

أما الصين فلها "طواحينها" الخاصة، فهي جعلت من مسلمي الإيغور حقل تجارب، وفرضت عليهم تطبيق هاتف يسجل جميع بياناتهم السلوكية، وفق "هيومان رايتس وتش" التي كشفت عبر "الهندسة العكسية" إحصاء التطبيق لأنفاس الإيغور.

مسلحة بـ"سلطة أداتية" تدعمها رأسمالية متسلطة تحاول بكين تصدير تجربتها في المراقبة، عبر شركة هواوي كما تتهمها واشنطن.

روسيا اتبعت النموذج الصيني وقررت فصل الإنترنت عن العالم عبر قانون "الإنترنت السيادي" الذي وقعه بوتين مؤخرا. كما زادت من دعمها لوكالة أبحاث الإنترنت (Internet Research Agency IRA)، أداة موسكو التي عبثت بها بديمقراطية أوروبا.