الطائفية كمقدمة لتفتت مشروع "الدولة" السورية

2018.10.18 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا يمكن القول إن دولةً سوريةً بمعناها المحايد والممثلة لعموم المجتمع السوري، قد تشكلت في تاريخ سوريا الحديث، وإنما هناك مؤسسات بيروقراطية مشوهة، لكل منها ظروف نشأتها الخاصة، فالجيش السوري بعد الاستقلال كان وريث جيش الشرق الذي أسسته فرنسا واعتمدت كثيراً في تكوينه على الأقليات، ناهيك عن بقية المؤسسات كالشرطة والقضاء والتعليم وغيرها التي أُلحقت بمؤسسات الأمن، وصارت أدوات لـ تمرير قرارات وسياسات أمنية لا أكثر، وصولاً ليومنا هذا حيث صارت سوريا ملحقة بالعائلة الأسدية.

النقطة الإيجابية في مسيرة الدولة السورية كانت محاولة الأحزاب التقليدية الليبرالية: حزب الشعب والكتلة الوطنية، (التي تأثر مؤسسوها ورجالها بأجواء الحياة العامة الأوروبية، كون غالبيتهم تلقوا تعليمهم هناك) خلْقَ حياة سياسية ليبرالية، وتهيئة الظروف لدخول البلاد في تجربة ديمقراطية من نوع ما، غير أنّ شهية العسكر للسلطة، والتشجيع الذي لاقوه من بعض الأحزاب التي تأسست في نهاية فترة الاحتلال الفرنسي، مثل البعث والاشتراكيين والقوميين السوريين، ذوي الأيديولوجيات الشمولية وأصحاب نظرية الشرعية الثورية، أطاحا بالكامل بمحاولة تلك الأحزاب التقليدية.

الأمر الذي أدخل سوريا في درب الظلمات هو انقلاب البعث عام 1963

ولكن الأمر الذي أدخل سوريا في درب الظلمات هو انقلاب البعث عام 1963، الذي بدأ أول مراسيمه بفرض الأحكام العرفية وإلغاء الصحف المستقلة، وحصر الحياة السياسية بكيانات هزيلة ملحقة به، عبر صيغة تحالف من نوع فريد، وهو ذاته الانقلاب الذي باشر بتكوين أجهزةٍ ضمن المؤسسات القائمة التي تتخذ الأيديولوجيا القومية خطاباً رسمياً لها، من خلال التستر بحزب البعث، أجهزة ذات تكوين طائفي، وكانت لها اليد الطولى في مفاصل السلطة، وهي التي أدخلَت البلاد لاحقاً في أتون انقسامات وحروب طائفية؛ فعلى السطح تطفو سلطة "علمانية" بخطاب قومي تقوم بوظائف شكلية، وفي العمق السلطة الفعلية ذات السلوك الطائفي صاحبة الدور الفعلي في إدارة البلاد.

لم تتمكن دولة ما بعد الاستقلال من جَسر الهوة ما بين الطوائف والأعراق في سورية، نتيجة لتعاملها بخطاب استعلائي على تلك القضايا، واعتبار تناولها أمرًا محرّمًا يوجب العقوبة، فهي ليست سوى بقايا التكوينات قبل الوطنية، وبالتالي فإن الدولة الوطنية الحديثة التي ينشدونها ستلغي تلك التمايزات؛ ما عمّق من تلك الصدوع بدلاً من أن جَسرها، فأصبحت متاريس يصعب تجاوزها، بل سبباً لكثير من المشاكل. 

لم تخلق هذه السلطات الطوائفَ، فقد كانت موجودة من أزمان بعيدة، ولكنها استثمرت فيها لتخلق منها نمطاً طائفياً، في التعامل والإدارة والتمييز تجاه المواطنين الآخرين، وكما ميّز الفرنسيون في فترة احتلالهم للبلاد المسيحيين أولاً تجاه البقية، في ترتيب تعاملاتهم، يليهم العلويون، وفي آخر السلّم العرب السنّة؛ كذلك ميّزت السلطات الجديدة التي امتطت البعث، طائفةَ العلويين، وجعلتهم محور بناء المؤسسات الأمنية التي ستكون نواة للدولة السورية الطائفية، معتمدة على مظلومية تاريخية يتناقلها العلويون، عن المذابح التي تعرضوا لها أيام المماليك والعثمانيين، ويدعمونها بالقهر الذي مارسه الإقطاعيون السنّة تجاههم بعد الاستقلال، بقصد خلق أيديولوجية طائفية تجمع الطائفة حول تلك الأجهزة.

لجأت عموم الأجهزة الأمنية إلى تصوير المتظاهرين على أنهم متطرفون وإرهابيون ووهّابيون

هذه "الدولة" الهشة التي تعتمد في نواتها على مؤسسة أمنية طائفية بامتياز، خلقت سياسات طائفية تجاه الجميع، كان لها ارتدادات عميقة، وخاصة مع انفجار الثورة السورية، إذ لجأت عموم الأجهزة الأمنية إلى تصوير المتظاهرين على أنهم متطرفون وإرهابيون ووهّابيون، وغير ذلك من التهم الموجهة إلى المتظاهرين، واستخدمت من جهة أخرى خطاباً تخويفياً تجاه العلويين (المندمجين في السلطة فالأقل اندماجاً ثم من هم خارجها) بأن هؤلاء الإرهابيين سيعيدون مجد الأيام السالفة تجاه العلويين من قتل وسبي وظلم، كما استخدمت الخطاب ذاته تجاه الأقليات الأخرى وخاصة المسيحيين.

كان للعنف المفرط الذي واجهت به سلطات النظام المتظاهرين دورٌ كبيرٌ في دفع الناس نحو التطرف واللجوء إلى حمل السلاح، وهو الأمر الذي فتح الباب لتدخلات إقليمية ودولية كبرى، فمقابل الميليشيات الطائفية التي استقدمها النظام من لبنان وإيران وأفغانستان وباكستان وغيرها، تهافت الجهاديون من شتى أصقاع الأرض، للدفاع عن أهل السنّة الذين يتعرضون لأبشع أنواع القتل والمجازر، وبالتالي استطاع هذا النظام تحويل الصراع بين شعب يريد حريته وحقوقه، وسلطة قمعية، من صراع سياسي إلى صراع طائفي بين نظام يدّعي حماية الأقليات، ومجموعة من الإرهابيين السنّة، لهم ماضٍ مرتبط بتجربة القاعدة وأحداث 11 أيلول.

نتيجة لهذا التصارع والاقتتال ذي اللبوس الطائفي، وتدخّل الدول الإقليمية والدولية؛ خضعت سوريا مؤخراً لنفوذ دول عدة: روسيا وإيران والنظام، على معظم المدن الرئيسية ونواتها الساحل السوري والعاصمة دمشق والمدينة الكبرى حلب؛ وفي الشمال والشمال الغربي، تركيا وفصائل المعارضة العسكرية؛ وفي الشمال والشمال الشرقي الولايات المتحدة والاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وبالتالي صار ثمة ثلاثة تجمعات/ دويلات يصعب التنقل فيما بينها، وتخضع لسلطات مختلفة وتغييرات كبيرة، أخطرها في أنظمة التعليم.

الطائفية ليست مسألة عابرة للتاريخ، وليست أبدية، فهي نتاج عملية سياسية لنظام استبدادي أراد من خلالها خلق اقتتال داخلي طائفي

الخطير في الأمر، بعد ثماني سنوات من عمليات القتل الوحشية تجاه السوريين من نظام طائفي وداعميه، وفي ظل غياب توجه دولي حقيقي نحو تسوية سياسية تخلّص البلاد من الاستبداد وتسعى لبناء دولة لعموم الناس يختارون فيها شكل الحكم الذي يناسبهم، أن تتحول تلك التجمعات/ الكيانات الثلاث ضمن عملية التصارع الدولي، إلى دويلات الأمر الواقع، تحتذي النموذج الإسرائيلي في تشكيل الدولة-الأمة القائمة على أساس الدين، وهو نموذج يُعدُّ استثناءً في قواعد تشكيل الدول-الأمم، لتصبح نموذجاً لغيرها، وخاصة بعد أن تمكّن النظام، بسياسته الطائفية التمييزية التي أنهت مشروع "دولة" ما بعد الاستقلال من جهة، ومن جهة أخرى مشروع التنظيمات الجهادية العالمية، من تحويل الطوائف إلى كيانات "إثنية"، يمكن أن تكون نوياتٍ لدول أكثر هشاشة من دولة ما بعد الاستقلال الهشة أساساً، وكارثة على الناس والمنطقة.

الطائفية ليست مسألة عابرة للتاريخ، وليست أبدية، فهي نتاج عملية سياسية لنظام استبدادي أراد من خلالها خلق اقتتال داخلي طائفي، وتحويل المعركة من أجل الحرية لمعركة ذات أبعاد طائفية، وبالتالي يكون الخلاص منه هو المقدمة الضرورية لبناء دولة وطنية للجميع.