الشرق السوري إلى أين؟

2018.12.25 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

وصلت يوم الخميس في 20-12-2018، أوّل دفعة من قوّات الفيلق الخامس، ذي القيادة السورية الروسية المشتركة، إلى منطقة الميادين جنوب شرق مدينة دير الزور، وحسب المعلومات الميدانيّة ستصل الدفعة الثانية منها خلال أيّام قلائل، وقد تكون قد وصلت فعلاً لحظة كتابة هذا المقال.

تتألّف القوّة المذكورة بشكل رئيس من 450 عنصراً من مقاتلي الفصائل العسكريّة الثوريّة التي كانت تتبع للجبهة الجنوبيّة للجيش السوري الحر، والتي باتت تتبع للجيش النظامي بعد استعادة النظام السيطرة على المنطقة الجنوبيّة من سوريا صيف العام الحالي 2018، وبعد الاتّفاق على تسوية هذا الأمر برعاية روسيّة.

ثمّة سعي روسيّ حثيث، للوصول بأسرع وقت ممكن لملء الفراغ، فيما لو انسحبت القوّات الأمريكيّة بسرعة كبيرة، رغم أنّ هذا الأمر غير متوقّع، بعد أن وقّع وزير الدفاع الأمريكي المستقيل جيمس ماتيس قرار سحب قوّات بلاده مطلع العام 2019، والذي يتضمّن آليات سحب الجنود وجدوله الزمني.

الارتباك الذي أحدثه قرار الرئيس الأمريكي ترامب، لم يقتصر على المنطقة المعنيّة فحسب، بل طال أركان الحكم في أميركا بذاتها. استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، مطالبات أعضاء بارزين في مجلس الشيوخ الرئيسَ بالعودة عن القرار، استقالة المبعوث الأميركي للتحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلاميّة بريت ماكغورك، إضافة للجدل الكبير الذي أثاره ويثيره القرار يوميّاً داخل الولايات المتحدة الأمريكية عبر وسائل الإعلام وفي مراكز البحوث المختلفة.

الارتباك الذي أحدثه قرار الرئيس الأميركي ترامب، لم يقتصر على المنطقة المعنيّة فحسب، بل طال أركان الحكم في أميركا بذاتها

أسئلة كثيرة، تطرحها قرارات الرئيس الأمريكي المفاجئة، وقد يكون للتحرّكات على الأرض من جهة، وللتصريحات المتناثرة من هنا وهناك والجولات المكّوكيّة للسياسيّين وقادة الأمر الواقع من جهة ثانية، أن تجيبنا عن بعضها.

على الصعيد الدولي والإقليمي والداخلي السوري، نجد زيارة وفدٍ من قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد) فرنسا، وتصريحات وزيرة الشؤون الأوروبيّة الفرنسية ناتالي لوازو "أنّ بلادها ستحافظ على وجودها العسكري شمال سوريا، وأنّها ستدعم حلفاءها هناك، وأنّها بدأت محادثات مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة بشأن ظروف الانسحاب والجدول الزمني لتنفيذه"، إعلان الخارجيّة البريطانيّة "بأنّ قواتها ستبقى هناك لأنّ تنظيم الدولة لم يهزم بعد"، وإعلان الخارجيّة الألمانية "أنّ التنظيم ضعف لكنّه ما زال موجوداً"، إعلان الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان تأجيل العمليّة العسكريّة التي كان من المقرّر أن يقوم بها الجيش التركي في مناطق شرق الفرات، وتعليقاته المتواصلة على الأمر بعد اتصاله الهاتفي مع الرئيس ترامب يوم 23-12-2018، تعليق المتحدّث باسم الخارجيّة الإيرانيّة بهرام قاسمي على الأمر بقوله: "إنّ الوجود الأمريكي في المنطقة منذ البداية كان إجراءً خاطئاً وغير منطقيّ وعامل زعزعة الاستقرار"، عدم تعليق النظام السوري على الأمر، واكتفاء وسائل إعلامه بالإشارة إلى الترحيب الروسي بهذا الأمر، وعدد كبير لا يكاد يُحصى من ردود الأفعال والتصريحات والمواقف التي تعبّر عن اضطراب ملحوظ في الساحة الدولية كما في الإقليم من هذا الأمر.

يبدو أنّ الرئيس الأمريكي أراد وضع الجميع أمام استحقاقات جديدة بهذا القرار المفاجئ، وهو ما عبّر عنه بتغريداته التي قال فيها، "إنّه أوفى بوعده الانتخابي بالانسحاب من سوريا، وبأنّه سيتعّن على روسيا وإيران والنظام محاربة تنظيم الدولة لأنهم العدوّ المحلّي له، وأنّه لن تقوم أميركا بذلك نيابة عنهم بعد الآن، بل يجب العودة إلى الوطن وإعادة البناء"

لا شكّ بأنّ القرار الأمريكي سيأخذ حيّزاً كبيراً من الجدل والنقاش، وأنّه سيغيّر الكثير من توازنات القوى على الساحة السوريّة، ولا يمكن التكهّن مسبقاً بآفاق تطوّر الأوضاع الميدانيّة والسياسيّة هناك، فيجب متابعة الأحداث والتطوّرات يوماً بيوم بل ساعة بساعة.

الأكيد في الموضوع أنّ الإرباك سيصيب حلفاء واشنطن من الدول المشاركة بالتحالف الدولي ضدّ داعش، قبل خصومها

عوّد الرئيس ترامب أعضاء إدارته والعالم أجمع على اتّخاذ قرارات غريبة وأحيانا صادمة، ولا يمكن للمرء أن يطلق عليها صفات من مثل ارتجالية أو مدروسة، صحيحة أم خاطئة، قويّة أم ضعيفة، لأنّ هذا الأمر بطبيعة الحال نسبي يخضع للظروف وزاوية الرؤية ووجهة النظر التي ينطلق منها التوصيف. ها هي شبكة سي إن إن الأمريكيّة تنشر مقاطع من المكالمة الهاتفيّة بين الرئيسين الأمريكي والتركي، وتزعم فيها أنّ ترامب قال لأردوغان: "سوريا كلّها لك.. لقد انتهينا"!

الأكيد في الموضوع أنّ الإرباك سيصيب حلفاء واشنطن من الدول المشاركة بالتحالف الدولي ضدّ داعش، قبل خصومها. فلا يتوقّع المرء أن تستطيع فرنسا أو بريطانيا الاحتفاظ بقواعدهما وقوّاتهما في سوريا بعد الانسحاب الأمريكي.

كذلك لا يمكن التكهّن بطبيعة التفاهمات التركيّة الأميركيّة، ولا بمدى وحجم وقوّة التحرّك التركي في هذا الخصوص. فهل سيكون هذا الأمر فرصة نادرة للحكومة التركيّة كي تصفّي حساباتها مع من تصفهم بأعدائها الإرهابيين في الشمال السوري، أم إنها ستتريّث وتتحسب خطواتها بشكل حذر؟ هل سيعود الأمر على تركيا بالفائدة، أم انّه سيكون مصيدة ستنزلق إليها وتجلب عليها الكثير من المصائب؟

لقد أوضحت السنوات الثمان الماضية أنّ كلا الطرفين التركي، والنظام السوري، كانا على حذر دائم وتيقّظ مستمر في العلاقة بينهما وخاصّة بين قوّاتهما المسلّحة، وباستثناء بعض العمليات ذات الطابع الاستخباراتي، مثل اختطاف المقدّم حسين هرموش، والردّ التركي بعد عدّة أعوام باختطاف يوسف نازيك، المتّهم من قبل تركيا بالمسؤولية عن عمليّة تفجير قضاء ريحانلي في هاطاي، لم نسمع عن أي احتكاك أو تصادم عسكري مباشر بينهما.

بالمقابل فإن التصادم التركي الروسي، قد أدّى إلى توتّر شديد في العلاقة بين البلدين، سرعان ما تمّ احتواؤه لتفادي التصعيد، ولتأمين استمرار التنسيق وتحقيق المصالح المشتركة. ولا شكّ بأنّ القيادة التركيّة، تعرف تماماً أنّ الكثير من القوى الدولية والإقليمّية، تسعى جاهدة لإغراق تركيا في المستنقع السوري، بدءً من إسرائيل وإيران وبعض دول الخليج العربي، ومروراً بالكثير من دول أوروبا، وروسيا وحتّى أميركا ذاتها، وتعلم هذه القيادة أنّ هذا الأمر سيكون له مضاعفات كبرى على استقرار الأوضاع السياسية والاقتصاديّة في البلاد.

بالمقابل، سيكون الدور الروسي هو الأكبر بلا أدنى شك، ولولا ضعف الوجود العسكري البرّي للقوات الروسيّة – الذي تحاول التعويض عنه بالزّج بقواّت الفصائل العسكرية المعارضة التي طوتها تحت جناحها- لكانت التحرّكات الروسيّة أسرع بكثير على الأرض من غيرها من القوّات الأجنبيّة الموجودة هناك. تعتبر روسيا نفسها محميّة بالقانون الدولي باعتبارها تدخّلت في الصراع بناءً على دعوة رسميّة من حكومة لا تزال تحوز الشرعيّة القانونيّة الدولية بموجب قواعد القانون الدولي بما فيها معاهدات ومبادئ الأمم المتحدة. هذا الأمر يجعلها قادرة على استخدام حجّة القانون الدولي في وجه خصومها من بقيّة أطراف النزاع أو المشاركين به.

موقف إيران سيكون الأكثر حذراً من الناحية النظريّة، لكنها ستحاول ملء الفراغ بأسرع وقت ممكن، وكما كانت دائماً، ستعمل الآن على التحرّك بواسطة ميليشياتها المستوردة والمحليّة وبالتعاون مع قوّات النظام السوري. لا شكّ بأن هذا الأمر سيفتح المجال واسعاً للتصادم مع الإسرائيلييّن الذين لم يخفوا هذا الأمر، بل وجدوا فيه فرصة للتعبير من سياستهم العلنيّة باستهداف الوجود الإيراني في جميع الأراضي السوريّة.

موقف إيران سيكون الأكثر حذراً من الناحية النظريّة، لكنها ستحاول ملء الفراغ بأسرع وقت ممكن

الموقف الإسرائيلي الحذر من هذا الانسحاب، وتداعياته على أمنها في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، أوضحته تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عندما قال: "بأنّه فشل في إقناع ترامب بالتراجع عن قراره المفاجئ، وأنّه يتم معاينة جودة هذا القرار وتبعاته وتأثيراته على إسرائيل، التي ستعرف كيف تدافع عن ذاتها".  لن يخرج التحرّك الإسرائيلي المتوقّع، والذي دأبت حكومة إسرائيل على العمل به، عن مبدأ المثل العامّي القائل: (لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم)، فهي تسعى جاهدة لإطالة أمد الوجود الإيراني كما لإطالة أمد بقاء النظام السوري، لكن بشكل ضعيف وهزيل قادرٍ على قمع أية محاولة للتغيّير المنشودة شعبيّاً، وبنفس الوقت غير قادر على إعادة الاستقرار النهائي. إنّ المصلحة الإسرائيليّة تكمن باستمرار الصراع في سوريا وعليها، لأنّ ذلك سيكون أفضل السيناريوهات التي تناسبها، والتي ما كانت لتحلم بها حتّى ولو كان من يحكم سوريا هو الجاسوس الإسرائيلي الذي تمّ إعدامه في سوريا، إيلي كوهين المعروف باسم كامل أمين ثابت.

ثمّة تشابك وترابط في ملفات المنطقة كاملة، فالتفاهمات بين الأطراف اليمنيّة المتحاربة، لا تنفصل عن التفاهمات الحاصلة في الشأن السوري، وعلى ما يبدو أنّ الرئيس دونالد ترامب أراد إعطاء بعض الإشارات عن تلك التفاهمات، حينما قال في تغريدة على حسابه في تويتر بتاريخ 24-12-2018:

"وافقت المملكة العربيّة السعوديّة على إنفاق الأموال اللازمة للمساعدة في إعادة إعمار سوريا، بدلاً من الولايات المتحدة الأمريكيّة... أترون ذلك، أليس من الجيّد أن تقوم الدول فاحشة الثراء بالمساعدة في إعادة إعمار دول جيرانها بدلاً من دولة عظمى، الولايات المتحدة، التي تبعد خمسة آلاف ميل...؟ شكراً للسعوديّة."

الأيّام القادمة حبلى بالتطوّرات السياسيّة والميدانيّة، ولا يمكننا التكهّن بطريقة سير الأمور إلّا بالقدر الذي يمكننا فيه توقّع قرارات الرئيس الأمريكي. يبدو أنّه مع دونالد ترامب (مُشْ حتقدر تغمَّضْ عِنيك)، وعذراً من العربيّة الفصيحة.