الشبّيحة: الانتحار الجماعي أم انتحار الجماعة؟

2018.12.09 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

وحين اكتشف أن ابنة أخته ما زالت حية وضع المسدس في صدرها وأطلق النار، كانت طفلة في الصف السابع. هكذا روت أم أيهم ما جرى في مثل هذه الأيام منذ ستة أعوام في قرية عقرب التي تتوسط المسافة بين حمص ومصياف، وتقطنها أغلبية من التركمان السنّة وأقلية من العلويين.

كانت الثورة قد وجدت طريقها سريعاً إلى البلدات التي تشكّل مدينة الحولة الملاصقة في الشرق، فيما كان أهالي عقرب حذرين من جوارهم في الجهات الثلاث الأخرى ومن «اللجان الشعبية» (الشبيحة) التي تكونت من شبان علويين أساساً. وإثر مجزرة الحولة الشهيرة، في أيار 2012، انتشر السلاح في عموم المنطقة المحتقنة. وفي مطلع كانون الأول أخذ التوتر في عقرب يتصاعد مع محاولة الجيش الحر السيطرة عليها، واشتداد القصف بالمدفعية والدبابات وراجمات الصواريخ من حواجز النظام، وضربات طيرانه، تمهيداً لعملية عسكرية مرتقبة.

وفي النهاية تحصّن عدد من الشبيحة في صالة رياضية بصحبة عدة مئات من عائلاتهم وأقاربهم ومدنيين علويين، أكثرهم نساء وأطفال

بدأ الأهالي بالخروج من القرية، كلٌّ إلى الوجهة الطائفية الملائمة له، وتواتر الخطف المتبادل، وانتشرت الشائعات التي صعُب التحقق منها. وفي النهاية تحصّن عدد من الشبيحة في صالة رياضية بصحبة عدة مئات من عائلاتهم وأقاربهم ومدنيين علويين، أكثرهم نساء وأطفال. ومع مرور الأيام واليأس من تدخل مؤازرة من طرف النظام أخذ المقاتلون في الداخل يفقدون أعصابهم، فيما أرسل الجيش الحر إليهم وفداً تفاوضياً تألف من مشايخ ذوي مكانة في القرية وضباط متقاعدين، فاحتجزه المحاصَرون. وفي لحظة اشتباك بينهم وبين المقاتلين في الخارج قرروا اتخاذ خيار شمشون «عليّ وعلى أعدائي».

بحسب روايات ناجين من المجزرة، بدأ الشبيحة بتفجير ما بين أيديهم من القنابل وجرات الغاز، فقتلوا الوفد المفاوض، ثم أخذوا بقتل عائلاتهم نفسها، وخاصة الفتيات والنساء، تجنباً لوقوعهن في أيدي الأعداء وتعرضهن للاغتصاب، كما قالوا هم للضحايا، مصرّين على منعهم من الخروج، وأخيراً قتلوا أنفسهم!

قدّرت أعداد من قضوا في هذه الحادثة المروعة بحوالي المئتين، معظمهم من النساء والأطفال. وكان إعلام الثوار في الحولة أول من كشف عنها ببثه شهادة أم أيهم، وهي إحدى اللواتي تم إنقاذهن وإسعافهن. وفي التسجيل يطالب الإعلامي الصليب الأحمر والمنظمات الدولية بالقدوم للالتقاء بالناجيات وسماع شهاداتهن، تجنباً لما يمكن أن يتهم النظام به الثوار من ارتكاب المجزرة.

في البداية أنكرت وكالة سانا الواقعة كلياً. ولما لم يعد من الممكن التستر عليها، مع شيوع الشهادات في المنطقة، أخذ الإعلام الموالي بتسويق رواية ركيكة تحمّل الجيش الحر المسؤولية. وبما أن المجزرة غير المسبوقة هزّت وجدان العلويين، فقد فضّلوا أن يصدّقوا هذه الرواية وينسبوا ما حدث للإرهابيين التكفيريين «أحفاد السلطان سليم»!

بعد سنة ستقع حادثة مشابهة لكن التعاطي معها سيكون مختلفاً كلياً. ففي مثل هذه الأيام من عام 2013 ستطلق فصائل الغوطة، وأبرزها «جيش الإسلام»، معركة للسيطرة على مدينة عدرا العمالية المجاورة، التي تتألف من مجمعات سكنية لموظفي بعض مؤسسات القطاع العام، وبينهم الكثير من أبناء الأقليات.

أثناء المعركة، وفي جو الرعب الذي شاع بين السكان الذين كانوا يراقبون الصدامات المسلحة والتصفيات من فرجات النوافذ، سيقدِم نزار حسن، وهو رئيس شعبة العلاقات العامة بالشركة السورية للنفط، في السادسة والأربعين من العمر، ويتحدر من قرية بسطوير بريف جبلة، على تفجير قنبلة بنفسه وبزوجته ميسون محلا، المهندسة في المؤسسة العامة للإسكان، وبولديه كريم (17 عاماً) وبشر (4 أعوام)، بعد اتفاق الأسرة الصغيرة على هذا الخيار الذي أبلغته لأقاربها عبر رسائل الموبايل الوداعية.

اللافت أن هذا السلوك سيحظى بمباركة تامة، أولاً من العائلتين الكبيرتين للزوجين، وتالياً من جمهور الموالاة في الساحل والذي عدّ هذا الفعل ضرباً من الشجاعة الفائقة، وأخيراً من وسائل الإعلام الموازية للسلطة، كما في تقرير لقناة «المنار» وفي حوار بثته فضائية «الميادين».

غير أن ما حصل في الحقيقة يبدو مزاداً عنفياً متصاعداً ومتبادلاً، ربما بدأه النظام في الأشهر الأولى للثورة عندما شعر بخوف جدي من أن تسحب من يديه بعض قاعدته الوجودية الصلبة

قيل الكثير عن استنفار النظام لأبناء الطائفة العلوية على القتال في صفوفه، وعن بث المخاوف بينهم إلى درجة «التوريط». غير أن ما حصل في الحقيقة يبدو مزاداً عنفياً متصاعداً ومتبادلاً، ربما بدأه النظام في الأشهر الأولى للثورة عندما شعر بخوف جدي من أن تسحب من يديه بعض قاعدته الوجودية الصلبة، لكنه صار أسيره نسبياً فيما بعد، عندما أخذت الأصوات المطالبة بـ«السحق» تتصاعد في هذه البيئة، متذمرة من بطء «الدولة» حيناً، ومن «تسامحها المفرط» مع «المسلحين» وحاضنتهم الاجتماعية أحياناً.

وإذا كنا نقف مشدوهين كل مرّة أمام هذه القدرة على الإجرام، أو طلبه وتأييده، في حق أهالي المناطق الثائرة؛ فالأولى أن نتأمل جيداً صورة الوحش يقتل أبناءه بيده! فمهما طُمست مجزرة عقرب ستبقى مؤشراً مبكراً على الدرجة التي وصل إليها الجنون. ومهما كانت حادثة عدرا العمالية قليلة التكرار إلا أن تمجيدها على نطاق واسع في هذه البيئة ذو دلالات عميقة مريعة على بلوغ شقاق المجتمع السوري مفصلاً خطراً يشبه اللاعودة، عندما تعد نموذجاً على الموت «بكرامة»، لا ذبحاً «كالنعاج» أو تسليماً «للشرف».