السوريون كرهائن!

2019.09.03 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عطفاً على تضامن كثير من الناشطين مع الزميلين "رواد إبراهيم" وزوجته "سيسيليا الطويل" الصحفيين الذين اعتقلا من قبل إحدى الفصائل المتنفذة في منطقة عفرين قبل أيام، فقد طلب مقربون من الزميلين عدم نشر أي صورة لهما تظهر وجهيهما، كي لا يسبب ذلك أي ضرر لذويهما المقيمين في العاصمة دمشق.

وبالعودة إلى أرشيف الزميلين من الصور في حساباتهما على مواقع التواصل الاجتماعي، اكتشفنا بالفعل أن كلاً من رواد وسيسيليا لم يسبق أن أظهرا وجهيهما في أي من الصور المنشورة، خشية على عائلتيهما اللتين، مثل آلاف العائلات التي تقيم في مناطق سيطرة النظام وغادرها أبناؤها لينضموا إلى العمل الثوري، تعيش قلقاً مستمراً كما يعيش أبناؤها أيضاً هذا القلق، خشية على ذويهم الذين هم بحكم الرهائن لدى النظام.

وفي المناطق الخارجة عن سيطرته، ظن كثيرون أنه بمغادرتهم مناطق النظام هم وأسرهم سيصبح بإمكانهم التعبير عن رأيهم بصراحة حول ما يحدث في سوريا، إلا أن تشابك الأحداث وتعقد شبكة السيطرة على الأرض بين قوى مختلفة ومتصارعة أصاب هذا الحلم في مقتل، قبل أن تؤدي التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري إلى فرض قيود إضافية على ممارسة السوريين لحق التعبير عن الرأي، حتى وهم خارج بلدهم المحطم والمكبل.

بات عليه أن يضع بالحساب مواقف حكومات دول كثيرة، حرصاً على السوريين الذين يقيمون في هذه الدول

فالسوري المقيم أو اللاجئ في أي من دول المنطقة، التي أصبحت جميعها تقريباً متدخلة بشكل أو بآخر في الشأن السوري، لم تعد حساباته مقتصرة على النظام أو قسد أو التنظيمات الجهادية أو الفصائل المحلية عندما يفكر في انتقاد حدث أو إبداء رأي أو تسجيل موقف، خشية على من خلفهم في هذه المنطقة أو تلك من الأرض السورية التي أصبحت نهباً للقوى والجماعات المتصارعة، بل بات عليه أن يضع بالحساب مواقف حكومات دول كثيرة، حرصاً على السوريين الذين يقيمون في هذه الدول.

فالسوري اليوم إذا أراد انتقاد الدور الأردني أو الخليجي في الجنوب مثلاً، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه الأثر الذي يمكن أن يخلفه هذا الرأي على السوريين المقيمين في الأردن أو السعودية أو الإمارات. وإذا ما فكر بالتعرض لموقف أنقرة مما يجري في الشمال فإنه يتردد كثيراً بدافع الحرص على ملايين السوريين الذين يعيشون في تركيا، والأمر ذاته ينطبق على قطر ومصر ولبنان.

صحيح أن ذلك لم يمنع السوريين من الكتابة والانتقاد والتعبير عن الرأي تجاه مواقف حكومات هذه الدول، إلا أن ذلك ظل محكوماً بحسابات قيدت حرية السوري في التعبير عن رأيه بصراحة، هذه القيود التي لم يكن بالإمكان اختراقها إلا مع أحداث كبيرة، تتعلق غالباً بوضع اللاجئين السوريين في هذه الدول، كما حدث في تركيا مؤخراً عندما بدأت الحكومة بحملة ترحيل المخالفين، وكما يحدث في لبنان بين الحين والآخر من إساءات وتجاوزات بحق السوريين هناك، بينما يبقى التعليق على الحدث السياسي مكبلاً إلى حد كبير، تحت هاجس الحرص على السوريين الذين تستضيفهم الدول المؤثرة في الصراع السوري.

يوم الجمعة الفائت تظاهر آلاف السوريين قرب النقاط الحدودية مع تركيا، تنديداً بالحملة العسكرية الأخيرة التي تشنها قوات النظام مدعومة من حليفيها الرئيسيين روسيا وإيران على الشمال، أحرق البعض في إحدى المظاهرات صورة للرئيس التركي، الأمر الذي تلقفته قوى وأحزاب تركية مناهضة للوجود السوري في بلدهم، واستغلوه للتهجم على السوريين مجدداً، وللمطالبة بطردهم من تركيا باعتبارهم (ناكرين للجميل) الأمر الذي ضاعف مخاوف السوريين في هذا البلد، وجعل البعض منهم يسارع للتنديد بمشهد حرق الصور، ودفع الكثيرين لإعادة التأكيد على الامتنان للحكومة والشعب التركي، على أمل التخفيف من حدة رد الفعل.

عشرات الحالات تصدى فيها سوريون لسوريين آخرين على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام للمطالبة بعدم التعرض لمواقف وسياسات الدول الإقليمية التي يقيمون فيها

سبق ذلك عشرات الحالات التي تصدى فيها سوريون لسوريين آخرين على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام للمطالبة بعدم التعرض لمواقف وسياسات الدول الإقليمية التي يقيمون فيها، حتى تلك السياسات المتعلقة بالشأن السوري، وذلك كله تحت شعار الحرص على السوريين الذين يعيشون في هذه الدول.

لا يفعل ذلك معظم السوريين بدافع التشبيح لحكومات الدول التي تستضيفهم كما يقول البعض، وهم على الأكثر يعرفون مدى الضرر الذي ألحقته مواقف هذه الحكومات بالقضية السورية، إلا أنهم وبمواجهة تقطع السبل الذي أصابهم، والخشية من مصير أشد قتامة قد يلحق بهم، باتوا يشكلون مواقفهم اليوم.

بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق ونشوب الحرب الطائفية هناك، ولجوء مئات الآلاف من العراقيين إلى سوريا حينها، ورغم أن كل العراقيين كانوا يعرفون مدى الدور السلبي الذي كان يلعبه النظام السوري في العراق، إلا أن العراقيين، وأتحدث هنا عن المواطنين العاديين، تجنبوا غالباً التحدث بعلنية حيال هذا الدور، لأنهم كانوا يشعرون بأنهم رهائن لدى هذا النظام، الذي يمكن أن يطرد مليون ونصف عراقي يقيمون في سوريا أو يحيل حياتهم الاضطرارية فيها إلى جحيم.

واليوم قد لا يكون موقف السوريين في معظم الدول الإقليمية التي تستضيفهم أفضل حالاً من موقف أشقائهم العراقيين بالأمس، فجميعنا يعرف الدور السلبي أو الضرر الذي تلحقه مواقف وتدخلات هذه الدول في الشأن السوري، وإطالة معاناتنا واستمرار آلامنا، إلا أن الشعور بأن السوريين الذين يقيمون في كنف هذه الدول قد يدفعون ثمن التصدى لهذا كله بسلاح الكلمة، يدفعنا للصمت حيناً أو المواربة حيناً أو التجاهل أو تجميل المواقف أحياناً، خشية على ملايين السوريين الذين لم تعد الخيارات متاحة أمامهم وأصبحوا كالرهائن هنا وهناك.