الرواية بديلاً عن الحِجاج الأخلاقي

2019.07.05 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

صدرت منذ شهرين رواية للكاتب السويسري الشهير لوكاس هارتمان بعنوان: (المغنِّي)، وتناول فيها حياة أهمّ مغنٍّ في العالم الناطق بالألمانية في ثلاثينات القرن الماضي جوزيف شميت (1904 ــ 1942)، الذي مات في مخيم للاجئين في سويسرا شريداً طريداً، مقموعاً مقهوراً، وهو في نضارة العمر وعنفوان الحياة.

ولد شميت في بوكوفينا التابعة للملكية النمساوية، وكانت منطقة يتكلم أهلها الألمانية، وهي اليوم جزء من أوكرانيا.

تتدرّج حياة شميت من طفولة عجرة بائسة مقتصرة على الغناء في المعبد اليهودي في بلدته تشيرنيفتسي، وملئية بالصراع مع الأب المتديّن الذي يعدّ كلّ أغنية غير دينية خطيئة، إلى روعة الشهرة المفتوحة على عواصم العالم الغربي ومسارحه ودور السينما فيه، إلى نهايةٍ مأساوية سريعة غير متوقَّعة ولا مرتقبة.

انتسب شميت في الحادية والعشرين إلى المدرسة الملكية للموسيقى في برلين، وتلقى أصول الغناء على يد هيرمان فايسبورن، أحد أشهر المدرسين في عصره، ولم يصعد سلم الشهرة درجة درجة، بل قفز إلى السدة منذ بداية ظهوره بما تمتّع به من خامة صوتية متينة يطلق عليها اسم (التينور)، وهو نوع من الأصوات الغنائية الرجالية يؤهله للغناء الدرامي والبطولي، وهو صوت يذكّرنا بأشهر مغني التينور اليوم: لوتشيانو بافاروتي وأندريا بوتشيلي، وفي سنة 1932 كُرِّم في ألمانيا باعتباره (الفنان الإذاعي الأكثر شعبية)، وحضر عرضه الأول (أغنية تدور حول العالم) في قصر أوفا في برلين سنة 1933 ثلاثة آلاف متفرج، وكان لا بدّ في ذلك اليوم من نشر الشرطة لإنقاذه من محبيه ومعجبيه.

مثّل شميت الأفلام السينمائية التي نهضت بها أغنياته المشبعة بالحنوّ والسموّ:

ــ (حين تكون شاباً العالم لك).

ــ (اليوم أجمل يوم في حياتي).

ــ (نجمةٌ تسقط من السماء).

ــ (أغنيةٌ تدور حول العالم).

ــ (يعيش غوتة).

ــ (اصطياد الناس).

وغنّى في هذه الأفلام لآرياس، وبيليني، وموزارت، وكان الصدق وسمه، والبحث عن الكمال ميزته. وُصف صوته بأنّه (صوت المكريفون المبارك). صوتٌ قوي ناعم، وممتلئ مستدير، ومشعٌ في الذّرى، ومتألّقٌ في المرتفعات.

فهم نفسه باعتباره (كاهن الفن)، واعتقد أنّه "يجب ألّا ينفصل الإنسان عن الفنّان، فمن لا يكون إنساناً لا يمكن أن يكون فنّاناً"، و"إذا لم يكن لديك قلب فلا يمكن أن يكون لك صوت حنون أمام المكريفون".

 

المحظور بين ليلةٍ وضحاها:

حضر جوزيف غوبلز حفل عرضه الأول (أغنية تدور حول العالم)، وفي تلك الليلة افتُتن به مع المفتتنين، وصفّق له مع المصفّقين، ابتهاجاً وتقديراً لعظمة الأداء، ولحظات السمّو الإنساني التي رفعهم إليها، ويُقال بأنّه أراد تعيينه شخصاً فخرياً، لكن في اليوم التالي افتتحت النازية حفل جنونها بحرق الكتب في برلين، وبدأ سعارها يلاحق اليهود والغجر وكلّ حرٍّ من الأدباء والفنانين، وفي 20 شباط

عقب عدة محاولات مخفقة للهرب إلى سويسرا نجح في عبور الحدود، لكنّه لم ينجح في أخذ الإقامة ولا تصريح العمل، بل زُجّ به في مخيم للاجئين، ليموت فيه في غضون شهر ونيف

غنّى شميت لآخر مرة في الإذاعة الألمانية أوبرا (حلاّق بغداد) المقتبسة عن قصة من قصص ألف ليلة وليلة، التي ألّفها الموسيقي بيتر كورنيليوس سنة 1858، وبعد ذلك اليوم مُنع من دخول مبنى الإذاعة.

غادر المطرب غير المرغوب فيه ألمانيا إلى فيينا، وغنّى فيها، وفي لندن وبودابست وأمستردام وفلسطين ونيويورك، وظلّ حتى سنة 1937 يقيم حفلات فردية في الجمعية الثقافية اليهودية إلى أن صدر قرار يمنع غير الآري من الغناء على الملأ، وفي سنة 1938 هرب من النمسا إلى بلجيكا، وبعدها بسنتين غادرها إلى فرنسا، وهنالك اعتقلته حكومة فيشي، وفي شهر آب من سنة 1942، وعقب عدة محاولات مخفقة للهرب إلى سويسرا نجح في عبور الحدود، لكنّه لم ينجح في أخذ الإقامة ولا تصريح العمل، بل زُجّ به في مخيم للاجئين، ليموت فيه في غضون شهر ونيف.

 

أسئلة اللجوء وقضاياه:

لم يكن اختيار كتابة هذه الرواية ونشرها في هذه المرحلة بالذات من قبيل المصادفة أو الاتفاق، بل كان اختياراً بالغ الدلالة أراد منه الإنساني لوكاس هارتمان أن يسهم في أهم نقاش أوروبي راهن حول اللجوء وما يعتوره من أسئلة وقضايا، فهو يحاذر من النظر إلى اللاجئين بوصفهم موضوعات سياسية يتمّ تجاذبها مع بقية الأطراف لتحقيق المكاسب، أو لتقليل الخسائر، بل هم بشر يستحقون التعاطف والكرامة.

لم يُسهم لوكاس في هذا النقاش باعتماد الحجج ولا والبراهين أو الأدلة، وإنّما اكتفى بالقصّ الذي يجيده ويبرع فيه. القصّ الذي يحفز عصب الوجدان، ويستثيره إلى درجة يصح أن نطلق على الرواية اسم (الرواية المسيلة للدموع).

يقول لوكاس في إحدى مقابلاته: "كان هنالك في سويسرا موقف صارم تجاه المتسلّلين، واشمئزاز شديد منهم، كما هو الحال اليوم عندما يقول أحدهم: لا نريد مزيداً من الشباب العربي"!

ومن أجل هذه الكلمة (لا نريد مزيداً من الشباب العربي) يعود لوكاس إلى الوراء حوالي ثمانين عاماً ليكشط طبقة التجاهل والإغضاء عن فصل قاتم من تاريخ بلده عنوانه (الجبن). الجبن الذي تملّك المسؤولين السويسريين خوفاً من استفزاز ألمانيا وانتقامها، فأصدر المجلس الفيدرالي السويسري قراراً بعدم جواز منح اللاجئين اليهود حق اللجوء إذا لم يتمكّنوا من إثبات الاضطهاد الفردي، وبناءً عليه جمّعوهم في مخيمات أشبه ما تكون بمعسكرات الاعتقال.

لم يكن شميت الفنان أو المثقف الوحيد الذي فرّ إلى سويسرا، لكنّه كان من أشهرهم، وكانت وفاته وصمة عار في جبين سويسرا، لأنّ النفس البشرية الواحدة التي تزهق تقصيراً وإهمالاً ورعونة تختزن النفوس البشرية جمعاء.

أدار الروائي لوكاس الرواية بطريقة تستفزّ مشاعر قارئه، وتجرّعه معاني الخذلان التي يعيشها اللاجئ، أيَّ لاجئ، وتجعله يحس بمرارة معاناته في حلقه، معاناة الهرب، ومعاناة إجراءات طلب اللجوء، ومعاناة خفقان القلب خوفاً من الإمساك به عند الحدود، ومعاناة الوجل من المجهول والغربة، بسرد قصة رجل لم يُسرق منه صوته، ولكن سُرقت منه حياته.

يصف لوكاس الروح المعذّبة لمغنٍّ اعتاد أن يُسعد الناس بحنجرته وغنائه، فيحطّمه المرض، وتغدو الحنجرة نفسها مركز تفسّخه البدني، وفي أثناء ذلك تفتح لنا الرواية كوى نشاهد منها المغني، وكأنّه قادم من عالم الحلم، وهو يلعب في مشاهد الأوبرا أدوار: تامينو، رودولفو، مانريكو، ثم تعود بنا لتقصّ علينا مآسي هروبه، ومحاولات تسلّله المخفقة التي نرى فيها قصص محاولات تسلل اللاجئين السوريين المتكررة في تركيا واليونان ودول البلقان! وتقرع أسماعنا أغنياته التي تخلف وعودها معه:

ــ (الأرض رائعة جداً)!! أبداً. الأرض مريعة جداً.

ــ (عندما تكون شاباً العالم لك)!! على الإطلاق، بل العالم يتنكر له ويشيح عنه، ويضطره في نهاية المطاف إلى الاقتراض من أصدقائه القريبين والبعيدين للبقاء على قيد الحياة، بعد أن كان أحد أبرز النجوم أجراً وربحاً في العالم! وعندئذ تغدو أصدق أغنياته تلك التي تقول: "كذبة تدور حولنا... كذبة".

يؤخذ شميت إلى مركز الاحتجاز (مخيم اللاجئين)، حيث لم يكن الطعام كافياً، ولا الأسرّة مريحة، ولا الأغطية سميكة، ولا الملابس ملائمة، ولا التدفئة جيدة! فيضطر اللاجئون للعمل لتعويض النقص، ويمرض شميت، ويذهب إلى المستشفى، ويخبرهم أنّه مريض، وأنّ صدره يؤلمه! فيقولون له: بل أنت متمارض! وبعد يومين من خروجه من المستشفى وعودته إلى مركز الاستقبال في غرينباد يخرّ ميتاً بسبب قصور في القلب، وتكتمل المأساة حين نعلم أنّه بعد يوم واحد من وفاته يخرج تصريح العمل الذي كان سيجعله حراً طليقاً.

لم تكن الرواية سيرة ذاتية مستقصية للمغني، بل تناولت الأشهر الأخيرة من حياته، وطُعِّمت بمقتطفات وإضاءات من طفولته وصباه وشبابه، وهي وإن شابتها اللغة التقريرية والتأريخية في بعض المواطن فقد تميّزت، في رأيي، بأنّها في اللحظة التي لم تجعلنا نعجب بشخصية شميت دفعتنا للتعاطف معه، وتذوّق المرارة التي كان يعيشها، ومكابدة الألم الذي

في هذه الرواية يدافع هارتمان عن سياسة أكثر إنسانية للاجئين، ويدفع، في العمق، قرّاءه الأوربيين للتعاطف مع ضحايا العصر المظلم الأسدي كما يتعاطفون مع ضحايا العصر المظلم النازي

كان يكابده، فهي لم ترسم صورة رومانسية له، بل أظهرته بكافة حوافّه الخشنة: علاقته بالمرأة ليست مثالية. لا يعترف بأبوّته لابنه، (وهو ما يناسب شخصيته، لأنه بالكاد يحمل المسؤولية عن نفسه). علاقته مع أبيه صعبة. أيام مدرسته كانت مزعجة بسبب قصر قامته. فقط علاقته مع أمه سارة كانت جميلة ومميّزة.

هل كان مقصود الكاتب أن يجعلنا في قمة التعاطف مع شخص لا نُعجب به؟! وهل هذه هي المقولة الضمنية للرواية: ليس بالضرورة أن تُعجب باللاجئ، ولكن من الواجب أن تتعاطف معه.

في هذه الرواية يدافع هارتمان عن سياسة أكثر إنسانية للاجئين، ويدفع، في العمق، قرّاءه الأوربيين للتعاطف مع ضحايا العصر المظلم الأسدي كما يتعاطفون مع ضحايا العصر المظلم النازي، ومثلما أنّه يكشف عن الجانب المظلم في التاريخ المعاصر فهو يعترف بالنقاط المضيئة فيه أيضاً، ويقدّم لنا نماذج من أشكال المقاومة لعسف السلطة أو لجبنها: صديق مخلص، ممرضة، لاهوتي بروتستانتي، وحتى في مشهد الجنازة يفتح لنا طاقةً من الأمل الإنساني! يتبع رجال المخيم تابوت المغنّي رغم القيود الصارمة. يسيرون جميعاً حول السيارة التي تسير ببطء برؤوس منخفضة وقبعات على الصدور، وحتى الحراس السويسريون الذين يتردّدون في البداية ينضمون للتشيع.

كلمات مفتاحية