الربيع العربي وتغيرات السياسة الدولية

2019.04.25 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يحكم العلاقات الدولية للقوى العظمى مع الدول الأخرى الصغيرة والمتوسطة، وبخاصة البلدان غير المستقرة في أنظمتها والتي لم تتمكن من بناء دول مستقلة، اتجاهان: الأول ينشد تحقيق الاستقرار من خلال الأمن، والثاني ينشد الاستقرار من خلال التغيير وتحقيق الديمقراطية والاندماج المجتمعي. وكثيراً ما أعادت ثورات الربيع العربي عام 2011، وما تلاها من انتصارات وإخفاقات بأشكال مختلفة، النقاشَ حول هذين الاتجاهين ودورهما في إقامة العلاقات ورسم مواقف الدول فيما بينها، ومع الدول التي اجتاحتها موجة الربيع العربي.

في أعقاب عصر القطبية الواحدة، و"نهاية التاريخ" كما عبّر عنه فوكوياما، بعد سقوط معسكر الكتلة الشرقية بقليل عام 1992، مدعياً انتصار القيم الليبرالية والديمقراطية على القيم والأنظمة الدكتاتورية؛ طغى اتجاه داعم لعمليات التغيير الديمقراطي في البلدان التي تحكمها أنظمة دكتاتورية، ومنها بلادنا العربية، وخاصة بعد غزو العراق عام 2003، ذلك الغزو الذي حفز الإدارة الأميركية على نشر ذلك النموذج، التغيير الديمقراطي سلماً أو حرباً.

واستجابة لتلك التغيرات الكونية، اجتاحت القوى السياسية التقليدية القومية والماركسية، بعد أن شعرت بفشل نموذجها، موجةُ انزياح باتجاه الأفكار الليبرالية والديمقراطية، ملاقاة لتلك التغيرات الدولية وللوقائع الكبرى التي حدثت، وغيّرت في خطابها من دون تغيير في قناعاتها، فغيّرت أبواب العمارة بينما حافظت على هيكليتها، وقد تبيّن لاحقاً هشاشة هذه التغيرات عند أول تجربة مع ممارسة الديمقراطية.

رحّبت حينذاك القوى الكبرى بتلك التغيرات، وشجعت على إنشاء هيئات تهتم بقضايا حقوق الإنسان والمرأة، وأقامت

بيّنت الوقائع المتتالية فشل النموذج الأميركي في فرض التغيير الديمقراطي، من خلال تجربتي أفغانستان والعراق، حيث لم ينتج هذا النموذح سوى تفتيت البلاد

دورات تدريبية في تلك المجالات، وتأسست في ضوء ذلك جمعيات ومنتديات في مختلف الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية، ومنها بلدنا، في تعبير عن رغبة السوريين في الإصلاح والتغيير، واندفع بعض قادة الأحزاب التقليدية لكيل المديح لهذا التوجه الأميركي بفرض النموذج "الديمقراطي"، بأنه ينقل البلاد من حالة ما تحت الصفر إلى حالة الصفر، وأطلقوا عليها حالة الصفر الاستعماري.

بيّنت الوقائع المتتالية فشل النموذج الأميركي في فرض التغيير الديمقراطي، من خلال تجربتي أفغانستان والعراق، حيث لم ينتج هذا النموذح سوى تفتيت البلاد، وخلق حالة من الفوضى في أسوأ حالاته، وفي أفضل حالاته أنتج نظاماً قائماً على المحاصصة الطائفية.

مع انطلاق موجة الربيع العربي عام 2011، دعمت الولايات المتحدة في البداية عملية التغيير وخاصة في تونس ومصر، ومع المسار الذي اتخذته عملية التغيير في ليبيا، ومن بعدها المسار الكارثي للثورة السورية، ترددت الولايات المتحدة في موقفها، وفضلت الابتعاد عن الساحة واللجوء إلى أنظمة دكتاتورية وكيلة شبه مستقرة، تجمعها مصالح اقتصادية كبرى، كما الموقف العدائي من الإسلام السياسي.

رأت روسيا الفرصة مناسبة لإعادة فرض نفسها كقوة دولية بدلاً من "قوة إقليمية" كما اعتبرها أوباما في قمة الناتو عام 2008 أثناء مخاطبته بوتين -وهي العبارة التي حفرت عميقاً في ذهن ونفس بوتين- وذلك من خلال الانخراط السياسي والعسكري المباشر في مجريات ثورات العربي، لتنقلها إلى حالة من الصراع الدولي والإقليمي، حيث تمكّنت بعد عمل وحشي طويل، ساعدها في ذلك التنظيمات الإسلامية المتطرفة، من تحويل مسار الثورات من حدث ينشد التغيير الديمقراطي موجهاً ضد أنظمة استبدادية، إلى صراع دولي مع الإرهاب الإسلامي.

أمام هذه التغيّرات، اتجهت الولايات المتحدة إلى صيغة التعامل مع أنظمة استبدادية تضبط عمليات القمع، بدلاً من الاستمرار في دعم عملية التغيير الديمقراطي، وكانت أولى بشارات هذا التغيّر: دعم انقلاب السيسي على نظام منتخب ديمقراطياً في تموز 2013، والحدث الثاني الصفقة مع روسيا والنظام حول السلاح الكيمياوي عام 2013، مقابل غض الطرف عن رحيل بشار الأسد، متخلية عن خطها الأحمر الرملي الذي رسمته إدارة أوباما.

وفيما يتعلق بسوريا، تقلّص عدد ما يُسمى "أصدقاء سوريا" إلى عدد قليل، وأصبحت فكرة التعامل مع بشار الأسد ونظامه أمراً مطروحاً ومقبولاً في دوائر صنع السياسة الغربية، عدا عن كونه جوهر السياسة الروسية، إلى أن تلاشى العدد واقترب من الصفر مع مجيء ترامب عام 2017، وأصبح التوجه واضحاً: التخلي نهائياً عن دعم التغيير الديمقراطي وعن القيم الديمقراطية، من خلال تكوين محور الثورة المضادة، الذي يعمل على إنهاء ما تبقى من هذه الثورات وعرقلة التجربة الناجحة فيه (تونس).

اتفق في هذا ترامب وبوتين، ونتنياهو في المنطقة، فكانت إسرائيل نواة هذا المحور، وأذرعه السعودية بن سلمان والإمارات بن زايد، كدول تقوم بالعمل بالوكالة، بالاعتماد على مصر السيسي الذي حول مصر -بثقلها البشري والاقتصادي والثقافي- إلى ألعوبة بيد بن سلمان وبن زايد.

وسط هذه التغيرات، طرحت إدارة ترامب صفقة القرن التي تنوي تصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة، فاعترفت بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وبالجولان كأرض إسرائيلية، ومن الجانب الروسي، كان تقديم رفات الجندي المقتول عام 1982 في لبنان لنتنياهو، قبيل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، بمثابة دعم واضح له، إضافة إلى دعم ترامب، في أن يستمر بزعامة إسرائيل، وأن يكون زعيم أحد الدول الأساسية في تقرير مصير المنطقة، وزيارته الأخيرة لموسكو كشفت عن دوره في تسوية الوضع في سوريا، ودعم بقاء الأسد على رأس النظام.

ما يجري هذه الأيام في ليبيا، حيث يشن الجنرال حفتر عمليته العسكرية، بدعم من السعودية والإمارات ومصر ومن خلفهما روسيا، لا يخرج عن هذا المسار، الذي يهدف إلى خلق نظام دكتاتوري عسكري من جهة، ومعادٍ للإسلام السياسي مثل أسياده في الخليج. كما يتضح أن هناك محاولة لترتيب

ما يجري في كلا البلدين، ليبيا والسودان، يلقى دعماً من روسيا والولايات المتحدة، في تجسيد واضح لموقفهما الموحد في رفض التغيير الديمقراطي في بلادنا العربية

مسار التغيير في السودان الذي يرسمه ببطولات شعبه، من خلال سعي الإمارات والسعودية لتدبير هذا الترتيب ودعمه، حيث يحقق غايتين: الخلاص من تيار الإسلام السياسي متمثلاً بالبشير، ومن جهة أخرى عدم إنجاز مهمة تغيير النظام، وخلق نظام ديمقراطي حقيقي.

بالطبع ما يجري في كلا البلدين، ليبيا والسودان، يلقى دعماً من روسيا والولايات المتحدة، في تجسيد واضح لموقفهما الموحد في رفض التغيير الديمقراطي في بلادنا العربية، والتوجه نحو إعادة هيكلة الأنظمة الدكتاتورية بصيغ مختلفة، وإبقائها أنظمة وكيلة وبلاد ضعيفة، فمن جهة تضرب عرض الحائط بالقيم الديمقراطية وبتطلعات الشعوب نحو حريتها، ومن جهة أخرى تبقيها أنظمة طيّعة أمام التغيرات المقبلة في المنطقة.

على الرغم من أن ثورات الربيع العربي كانت فاتحة هذا القرن، لكن يبدو أنه سيكون قرن الثورات المقهورة، وبالتالي علينا جميعاً التفكير في صيغ جديدة للتغيير، بعد كل ما قدمته شعوب المنطقة من ثمن باهظ. إنه خيار لا بد من مواجهته، كي لا تضيع دماء شهداء الربيع العربي، ولا يُدفن حلمه إلى حين.