الدولار في ظل الفساد وعقود الإذعان

2018.09.26 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أصدر مصرف سوريا المركزي الإعلان التالي، وقد نشره على موقعه في الثامن عشر من الشهر الحالي: "يعلن مصرف سورية المركزي أنه في ضوء قيامه باستكمال عمليات تدقيق بيع القطع الأجنبي التي جرت أثناء عملية التدخل في عام 2012 والمستمرة منذ عدة سنوات فإنه لا بد من التأكيد على جميع الأشخاص والشركات الذين قاموا بشراء القطع الأجنبي في الفترة الممتدة من 13/3/2012 ولغاية 15/10/2012 بضرورة مراجعة مبنى مصرف سورية المركزي في دمشق أو فروعه في المحافظات لتقديم الوثائق التي تبين كيفية استخدامهم للقطع الأجنبي المشترى في الفترة المشار إليها أعلاه مع ضرورة مراعاة المدد المحددة لتقديم هذه الوثائق علماً أنه بنهاية المدة المخصصة لتقديم الوثائق (والمحددة بــ 1/10/2018 بالنسبة لمن قاموا بعمليات استيراد باسم الغير، و 30/11/2018 بالنسبة لمن قاموا بعمليات الاستيراد باسمهم الشخصي".

أثار الخبر موجة من الانتقادات والتعليقات الساخنة، وبعضها ينضح بسخرية مرة، سخرية الإنسان المحبط المرمي في قلب الهلاك وليس بإمكانه غير التطلع إلى حاله وإلى عجزه.

أما الخبر الذي نشره أحد المواقع الخاصة بالأوراق المالية والأسهم

المصرف سيسترد الدولارات من أصحابها بالسعر الذي اشتروه به حينها، أي منذ ست سنوات، بعد التحقق من كيفية التصرف بالدولارات المشتراة بأن يقدم الشخص بياناته وثبوتياته حول الأمر .

فيقول إن هناك عرضًا لأعداد كبيرة من العقارات في مدينة دمشق مع تحديد الأحياء والأماكن التي يزداد فيها العرض وسعر الأمتار، والسبب برأي الموقع هو أن الكثيرين ممن استغلوا فرص التدخل المتاحة التي يمنحها المصرف المركزي ببيع الدولارات شعروا بالخطر من الإجراءات التي ستتخذ، التي يقول عنها الخبر إن المصرف سيسترد الدولارات من أصحابها بالسعر الذي اشتروه به حينها، أي منذ ست سنوات، بعد التحقق من كيفية التصرف بالدولارات المشتراة بأن يقدم الشخص بياناته وثبوتياته حول الأمر ضمن المدة القانونية الممنوحة بموجب الإعلان.

لقد كان الأفراد يقبلون على شراء كميات كبيرة من الدولار كلما قام المصرف المركزي بالتدخل من أجل لجم الدولار عن جموحه وتغوله بالليرة السورية "المستضعفة"، وكان من الطبيعي ألاّ يعدم الكثير من السوريين فرص التحايل والالتفاف على الأنظمة المتبعة بتواطؤ خفي مع بعض الأشخاص في موقع المسؤولية وشراء كميات كبيرة من الدولار مترافقة في أحيان عديدة مع شراء الذمم، وهذا أمر ليس بغريب عن الواقع السوري الذي غرق في مستنقع الفساد منذ عقود خلت، أو أن يتدخل البعض بسطوة نفوذه ويأخذ النصيب الأكبر أو يقنص صيدًا وافرًا من الدولارات مستندًا إلى القوة التي يمنحه إياها موقعه ونفوذه.

ولأن المعروف والشائع أن الملاحقة والمحاسبة بحق المرتكبين في أي مجال كانت إجراء خلبيًا فيما مضى، في ظل الفساد المنتعش والمستشري مثل الوباء، وأن أي ملاحقة ومحاكمة كانت فيما مضى تطبق بين حين وآخر بطريقة كيدية بحق بعض الأسماء التي انتهت صلاحيتها من جهة، ومن جهة أخرى تمارس كرسالة إشهارية موجهة إلى الرأي العام توهم الشعب المغلوب على أمره الواقع تحت سطوة الاستبداد بأن الحكومة والجهات المسؤولة تسهر على مصالحه وتحمي الصالح العام وتصون الحقوق الفردية والعامة، وبالتالي لا بد من طرح قضية محاسبة بين حين وآخر على الملأ، وتداول حيثياتها في وسائل الإعلام وكل المنابر الحكومية تحت بند الشفافية والمحاسبة. لكن الوجدان الجمعي بشكل عام كان يتلقى هذه الإجراءات بسخرية مرة وهو يعلم بأن لا شيء تغير أو سيتغير، فحبل الفساد متروك يتلوى بين المواطنين كثعبان يلتف على أعناقهم يمتص نسغهم ويعتصر أرواحهم.

الكثيرون ممن غنموا الحصة الأكبر مستغلين فرص التدخل هربوا بدولاراتهم أو هربوها إلى الخارج، ومن بقوا في الداخل لم يكونوا واثقين من أن إجراء ما سيتخذ بحقهم، لذلك كان الإعلان الذي طرحه المصرف المركزي مطالبًا المستفيدين بتقديم ثبوتيات بمثابة صافرة إنذار دفعتهم إلى عرض أملاكهم للبيع بحيث لا يبقى لديهم ما يمكّن الجهات الحكومية من الحجز عليها، وليس خافيًا على أحد أن الكثير من الصفقات التي تجري في سوريا وعقود البيع والشراء، في ظل الأزمة، وأزمة الليرة بشكل أساسي، تجري بالدولار وليس بالليرة التي انحدرت قيمتها وما زالت إلى مستويات مخيفة ومهينة، فالدولارات متوفرة في الأسواق وبين أيدي التجار خاصة أولئك الذين أثروا بسبب الحرب، والدولار متمكن ويعرف كيف يحمي قيمته ويقفز دائمًا إلى مستويات الأمان في ظل هذه الحرب. وكل التصريحات السابقة على لسان المسؤولين ومن بينهم حاكم مصرف سوريا المركزي "الذي أزيح من منصبه أمس" بأنه يستطيع أن يعيد الدولار إلى قيمة مائتي ليرة، كلها لا تعني شيئًا بالنسبة إلى الشعب، الشعب الذي أشبع إذلالاً وإهانة وتجويعًا وتنمرًا، الذي يتحكم به غول الدولار وغول الحرب وغول الإفساد وغول القمع. المواطن السوري يجوع بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فراتب الموظف وسطيًا مائة دولار يزيد أو ينقص قليلاً، وكل سلع الحياة التي يحتاجها ترتبط بالدولار حتى الحشائش البرية التي تدخل في العادات الطعامية للناس كالهندباء والخبيزة وغيرها، بينما ليرته الوطنية تنحدر بشكل مريع إلى مستويات مخيفة ومهينة، بل إن الواقع وهو الأصدق والأكثر دقة في تحديد قيمة الليرة يبرهن أن سعر الدولار أعلى من سعره المتداول، والقرائن حاضرة في الذاكرة، بمقارنة الأسعار قبل المحنة واليوم.

الفساد تغوّل في المجتمع السوري أكثر من السابق، فكل شيء

يبدأ الموظف أو النقابي بدفع ما يترتب عليه إلى خزانة التقاعد عند مباشرته العمل الوظيفي، وعند انتهاء مدة خدمته من حقه أن تصرف له تعويضاته، فلماذا لا تصرف الحكومة التعويضات بسعر الصرف الذي كان معتمدًا عندما كانت تقتص من راتبه هذه المبالغ.

مؤجل لأن الوقت الآن لمحاربة "الإرهاب" و"التصدي للمؤامرة الكونية" على سوريا، وعلى المواطن الصالح الوطني أن يقبل الجوع والفقر والتشريد ودفع أبنائه إلى الموت، وأن تُدار الحرب بلقمة أبنائه ودمائهم، ويحلم صاغرًا بالجنة الموعودة، الجنة التي سيفتح أبوابها النظام الحاكم بعد أن يقدم هذا المواطن قرابينه.

العقود المبرمة بين المواطن والدولة عقود باتجاه وحيد، عقود إذعان مشروطة بحكم الأقوى، يبدأ الموظف أو النقابي بدفع ما يترتب عليه إلى خزانة التقاعد عند مباشرته العمل الوظيفي، وعند انتهاء مدة خدمته من حقه أن تصرف له تعويضاته، فلماذا لا تصرف الحكومة التعويضات بسعر الصرف الذي كان معتمدًا عندما كانت تقتص من راتبه هذه المبالغ؟ لقد سددنا، زملائي وأنا، لخزانة التقاعد ورسوم النقابة عندما كان سعر الصرف يعادل سبع ليرات وعندما طالبنا بمستحقاتنا لم تدفع مباشرة، ظل التأجيل والتسويف بحجة أن كثيرًا من الأطباء غادروا أو هناك كثيرون أيضًا في الأماكن الخارجة عن سلطة النظام لا يسددون رسوم النقابة وبالتالي فليس في صندوق الخزانة ما يكفي لمنحنا حقوقنا، وعندما أفرج عنها كان سعر الصرف يقارب الأربعمائة ليرة، وليس من حقنا الاعتراض أو المطالبة، بحكم الأقوى، وبحكم الوطنية المعروضة في بازارات السياسة والمصالح.

في ظل الفساد لا يمكن للحياة أن تبقى معافاة، الشعب السوري يدفع الأثمان أينما وجد، وليست الأمور بأفضل في مناطق بازارات السياسة، حيث مصيرها مرهون باتفاق غيلان العالم أصحاب المصالح والمطامع المتناحرة يديرون حروبهم فوق أرضنا.