الخلافات التركية الأميركية وتأثيرها على مناطق النفوذ شمال سورية

2018.08.16 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تصاعدت خلال الآونة الأخيرة حدة التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، على خلفية قضية القس الأميركي (أندريو برونسون) المحتجز لدى أنقرة ما دفع الأولى لفرض عقوبات اقتصادية كانت لها آثار بالغة على قيمة العملة المحلية التركية، الأمر الذي جعل الأتراك يبحثون عن بدائل ممكنة (سياسيًا/ اقتصاديًا) وهو ما يمكن أن يقود إلى تشكيل تحالفات جديدة ليس في الشرق الأوسط وسورية فقط، وإنما في مناطق مختلفة من آسيا وشرق أـوروبا.

الخلافات بين واشنطن وحليفتها القديمة أنقرة لم تبدأ الآن، بل هي قديمة وتعود إلى زمن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وأبرز عناوينها اتهامات تركيا للأميركيين بدعم منظمات كردية "إرهابية" ما يشكل خطرًا على أمنها القومي، في حين وُجهت انتقادات للأتراك بسبب دعمهم لفصائل متشددة في الشمال السوري وفق زعم البيت الأبيض.

قد يكون من السذاجة التسليم بأن التوتر المتصاعد بين الدولتين يعود إلى قضية القس الأميركي المحتجز لدى تركيا، وربما شكلت هذه القضية غطاءً يخفي خلافات سياسية أكثر عمقًا تتعلق بالمشروع السياسي لتركيا الذي يصطدم بتحفظات أميركية كثيرة، وتبدو مسألة رجل الدين الأميركي مناسبة لاستثمارها أمام الرأي العام، فمن جهة ترامب توظيفها كمدخل لانتقاد تقييد الحريات الدينية في تركيا، ومن جهة أردوغان تحويلها إلى قضية قومية تمس كرامة الشعب التركي.

أبرز ملامح الخلاف بين البلدين يتعلق بطموحات أنقرة في إعادة إنتاج وجودها جيوسياسيًا كدولة إقليمية ضاقت عليها حدودها

قراءة المعطيات السياسية والميدانية تشير إلى أن أبرز ملامح الخلاف بين أنقرة وواشنطن يتعلق بطموحات أنقرة في إعادة إنتاج وجودها جيوسياسيًا كدولة إقليمية ضاقت عليها حدودها وتبحث عن مناطق نفوذ خارجية –سياسيًا/ اقتصاديًا- وخطت تركيا خطوات كبيرة في هذا الاتجاه خلال العقدين الأخيرين سواء باتجاه تعزيز وجودها ونفوذها على شواطئ بحر قزوين من خلال تأثيرها الكبير على بعض الدول هناك مثل أذربيجان وتركمانستان، بالإضافة إلى حضورها المتزايد في الشرق الأوسط وخاصة سورية.

أمام الوقائع السابقة تحاول واشنطن ضبط أو ترويض النفوذ التركي من خلال ضغوط اقتصادية تشير العديد من التصريحات الأميركية بأنها قد تتصاعد في حال إصرار أنقرة على ذات النهج، وهو ما يمكن فهمه في سياق التوجهات السياسية لإدارة ترامب القائمة على فرض عقوبات على عديد الأطراف (طهران/ موسكو) كاستراتيجية لإنتاج تسويات جديدة على مستوى الشرق الأوسط ومناطق أخرى خاصة في ظل تصاعد النفوذ الروسي.

محاولة قراءة وتحليل أبعاد ودوافع التصعيد الأميركي ضد أنقرة يمر حتمًا عبر تل أبيب، إذ يؤكد معظم ما تسرب عن التسويات المحتملة فيما يخص الشأن السوري وشرق المتوسط عمومًا، أن هناك توجه للجم النفوذ المتنامي لعدد من الدول بما يضمن التفوق الإسرائيلي دون منازعة أحد، ويدعم هذه الرؤية التراشق الإعلامي بين تركيا وإسرائيل مؤخرًا، خاصةً بعد جولة الانتخابات الأخيرة في أنقرة والتي انتهت إلى فوز أردوغان والعدالة والتنمية.

بدورها ستسعى أنقرة للدفاع عن طموحاتها السياسية والاقتصادية وبدأت بالتقارب أكثر مع موسكو وبكين وهو ما أعلنته صراحة ردًا على العقوبات الأميركية، وقد أبدت روسيا انفتاحًا ملحوظًا على الخطوة التركية، إذ صرح الكرملين عن استعداد بلادة لاعتماد العملة المحلية في التبادل التجاري بين البلدين بديًلًا عن الدولار، إلى جانب تصريحات روسية أخرى أشارت إلى رغبة موسكو بتفاهمات أكبر مع تركيا فيما يخص الشمال السوري.

إلا أن مشكلة تركيا لا تكمن فقط بتحفظات واشنطن على مشروعها أو طموحها السياسي، بل أيضًا هناك تحفظات روسية وأوربية أيضًا خاصةً لجهة رغبة أنقرة بامتداد (غصن الزيتون) لتشمل كافة مناطق شرق الفرات وصولًا إلى شمال العراق، وهو الأمر الذي يبدو مرفوضًا دوليًا حتى الآن، ولذلك قد تجبر أنقرة على تقديم تنازلات مقابل الاحتفاظ بمناطق نفوذ على حدودها مع سورية ضمن مناخ دولي متحول لا يدعم توجهاتها.

تضطر أنقرة إلى التخلي تمامًا عن طموحاتها شرق الفرات وشمال العراق

بمعنى آخر قد تضطر أنقرة إلى التخلي تمامًا عن طموحاتها شرق الفرات وشمال العراق، مقابل أن يبقى نفوذها محميًا في مناطق (درع الفرات وغضن الزيتون) بالتفاهم مع موسكو، بما يفتح الطريق أمام تفاهمات أخرى مع الأكراد، وكذلك بشأن بعض مناطق الساحل السوري، ومحافظة إدلب وما تبقى من ريف حماه يصعب تحديد ملامحها في الوقت الراهن بانتظار ما ستحمله الأيام القادمة من معطيات على الأرض، لا سيما مع الإعلان الروسي عن إمكانية عقد اجتماع رباعي (فرنسي/ تركي/ روسي/ ألماني) لبحث الملف السوري.

دون شك فإن ما تمر به تركيا سيؤثر على طبيعة مناطق النفوذ في الشمال السوري والساحل وهو ما تؤكده تصريحات صادرة عن البيت الأبيض أشارت إلى أن العقوبات الأخيرة التي أدت إلى تراجع الليرة التركية بنسبة أربعين بالمئة ما هي إلا "جزء ضئيل جدًا"، يقابلها تصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قال فيها أن هناك "أولوية الآن في سورية لمحاربة جبهة النصرة"، وهذه معطيات واضحة تمهد لخسارة جديدة تنتظر الثورة السورية في ظل التوازنات الدولية والإقليمية القائمة.

تذهب العديد من الآراء إلى أن الإجراءات الأميركية الأخيرة ضد تركيا وأطراف أخرى هي مؤشر واضح على عودة الثقل الأميركي بشكل كبير إلى المنطقة، بعكس العديد من التكهنات التي أكدت بأن قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين  تركت لموسكو حرية التصرف في سورية، في حين ترى بعض القراءات الإعلامية أن سياسة واشنطن الحالية خاصةً تجاه الحلفاء وأنقرة مثالًا ترتبط بشكل مباشر بشخصية ومزاجية الرئيس الأميركي، إلا أن رفض دوائر سياسية أمنية أميركية تسليم تركيا مقاتلات f35 ريثما ينتهي تقييم ما يمكن أن يشكله التقارب التركي/ الروسي المتصاعد من خطر على الأمن القومي الأميركي ربما يشكل نفيًا قاطعًا لمثل تلك التحليلات.